في صلالة، خلال يومي 16 و17 أغسطس الجاري، حضرنا ملتقى التدريب والمدربين العرب الثالث، وكان الملتقى تحت رعاية كريمة من لدن الشيخ محمد بن سيف البوسعيدي والي ولاية صلالة.
الجميع يعرف مدى جمال وروعة صلالة خلال موسم الخريف، فأينما وجهت وجهك تجد اللون الأخضر، فالجبال خضراء والشوارع خضراء وكذلك القلوب خضراء والشعب جميل ورائع، وهذا ما ألقى بظلاله على الملتقى فكان من أجمل الملتقيات التي يمكن أن يحضرها المرء خلال السنة كلها، فهي بالفعل تجدد نشاطه ونفسيته.
ومن الطبيعي أنه عندما تجد نفسك في صلالة في هذا الوقت من السنة، فإن نفسك تتوق إلى التجوال لتشاهد ما لا يمكنك مشاهدته في أي مكان، لذلك قمنا بمعية الإخوة منظمي الملتقى من أهل صلالة ببعض الزيارات لبعض الأماكن الجميلة، ومن المناطق التي أتذكرها جيدًا زيارتنا لشاطئ الدهاريز الواقع على المحيط الهندي.
الشاطئ رملي جميل، مياهه صافية، وكانت الأمواج مرتفعة وكذلك هديرها، أخذنا مجموعة من الكراسي وكنا مجموعة من المدربين وجلسنا على الساحل، والأمواج ترتفع وتتلاطم، وسرح كل منا في ذاكرته وخيالاته، وساد الصمت فترة من الزمن، فحاولتُ أن أقطع هذا الصمت بسؤال وهو؛ لو تحدث البحر الآن ترى ماذا سيقول لك؟ عاد كل شخص في ذاكرته إلى الوراء، ترى ما حكايتي مع البحر.
قال أحد الإخوة المدربين: عندما كنتُ أعمل في إحدى المؤسسات في بلادي، حدثت مشكلة بيني وبين المسؤول، وحاول ذلك المسؤول بشتى الطرق أن يتخلص مني، منها أنه حاول أن يحيلني إلى التقاعد، لكنه لم يستطع، لذلك تم تهميشي وركني، فكنتُ آتي إلى العمل كل يوم ولا أقوم بعمل، حتى ضجرت ويئست وكان بيني وبين الاكتئاب شعرة، كما يقولون. فما كان مني إلا أن لجأت إلى والدي، سردتُ له الحكاية كلها، نظر والدي إليّ فترة من الزمن، ثم شرب القهوة، وابتسم، فقط ابتسم، فقال: «ألديك كرسيان في سيارتك»، فقلت: «نعم، وحتى لو لم يكن لديّ يمكنني أن أذهب لشراء الكراسي».
قال والدي: لا، يكفينا كرسيان، أين سيارتك؟
قلت: عند الباب.
قال والدي: تعال معي لنخرج من البيت.
خرجنا من البيت، وأنا لا أعرف ماذا يريد والدي وإلى أين سنتجه؟ قلت: أين وجهتنا؟
قال والدي: البحر، على الساحل.
وصلنا إلى الساحل، قال لي: «خذ الكرسيين وتعال معي»، أخذت الكرسيين ومشيت خلف والدي وكأن طفلا رضيعا يسير خلف والديه. وعندما بلغ والدي الشريط الساحلي خلع نعليه، ودخل البحر حتى وصل إلى تلك المنطقة التي يكون فيها الماء يصل إلى الركب، فقال: «ضع الكرسيين هنا».
وبكل أدب وتواضع وضعت الكرسيين، فجلس والدي وجلست بالقرب منه، وبدأ يتحدث في أمور الحياة وقضايا الحياة العامة، أي في مواضيع شتى ما عدا الموضوع الذي أنا جئت من أجله، وهو وضعي في العمل.
وبعد برهة من الزمن بدأ منسوب الماء ينحسر تدريجيًا، فشعرت أنا بذلك وحتى أن الشمس سحبت أشعتها استئذانًا بالغياب، والمغيب. فنبهت والدي إلى ذلك، وابتسم مرة أخرى، وقال: يا بني، الحياة مثل ماء البحر، مرة يرتفع ومرة ينخفض، وسنن الحياة لا تسير وفق نمط واحد، أنت ذات يوم كنتَ مسؤولاً في مكان معين من المؤسسة التي كنت تعمل فيها، لذلك كنت تشعر أنك في مد البحر، وهذا ما جعلك سعيدًا، ولكن اليوم أنت أمام انحسار البحر، وهذا سبب لك الضيق والمشكلات، ولكن هذا ليس نهاية الدنيا، فالغد يوم آخر، سيأتي الموج والمد مرة أخرى وسيرتفع منسوب الماء وسترتفع معه إن عرفت أن تصعد المد وأن تستفيد منه، وهذا هو حال صياد السمك، فهو لا يحب الجزر لأن الأسماك تسبح وتهرب إلى عمق البحر، ولكن الصياد الذكي ينتظر المد حتى يتمكن من الأسماك والثروة البحرية.
يا بني لا تتضايق ولا تكتئب، وإنما انتظر المد، وإن شاء الله ستتمكن من ركوب البحر والإبحار، وحينها يا بني ارفع شراعك وحول المشكلة التي أنت فيها اليوم إلى فرصة تستفيد منها وتفيد الآخرين.
انتهت حكاية الأخ، فقلت: من له حكاية أخرى مع البحر.
قالت مدربة كانت جالسة معنا: دعوني أحكي لكم حكايتي.
قلتُ: تفضلي.
قالت: عندما بدأت حياتي الزوجية، بدأت مشاكلنا معها، كنا لا نعرف أحدنا الآخر، وكان كل واحد منا يريد أن يفرض رأيه على الآخر، فعندما كان زوجي يتحدث ويطرح وجهة نظر في موضوع كنت أحاول وبكل طريقة أن أفرض رأيّ، وكذلك كان يفعل هو، واستمر حالنا هكذا فترة طويلة من الزمن، وخلالها أنجبنا طفلنا الأول وطفلتنا الثانية، ومازال حالنا كما هو، إذ كان أحدنا لا تنازل عن رأيه مهما كان ذلك الرأي، فتصوروا كيف كان الغضب والتوتر يسود حياتنا.
وخلال هذه الفترة عندما أجد في نفسي الضيق والغضب، وعندما تبلغ مني المشاكل مبلغًا، كنتُ آخذ الطفلين وأذهب إلى البحر، أجلس ساعات، وفي الحقيقة، لا أفعل شيئا، كنتُ فقط أجلس، وأتحدث مع نفسي لمحاولة الخروج من هذا المأزق الذي وضعت نفسي فيه، واستمرت الحياة على هذا المنوال فترة.
ذات مرة، كنتُ جالسة عند البحر، وكان البحر هادئًا بطريقة غريبة جدًا، وكأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة كما يقال، وهذا الهدوء شجع ابنتي أن تنظر إلى سطح البحر الهادئ، وتتحدث مع صورتها، ولكن قام ابني برمي حجر أمام ابنتي في الماء، ودخل هو البحر، ولخبط سطح الماء، فبكت ابنتي، وكانت تحاول أن تعيد سطح البحر إلى ما كان عليه، لكنها كانت تحاول وهي تضرب سطح البحر، وهذا كان يؤدي إلى عدم ثبات سطح الماء، وكانت تبكي، فمر رجل كبير في السن عليه وقار، فقال لابنتي: ماذا تفعلين؟
ابنتي: أحاول أن أعيد هدوء الماء وجماله.
فقال لها الرجل: لا تثيريه، وإنما دعيه يهدأ بنفسه.
فقام الرجل ومسك يد ابنتي حتى هدأ سطح البحر، فقال لها: انظري، كل الأمور المثارة يجب أن ندعها فترة من الزمن حتى تهدأ، حينها ستعود الحياة إلى طبيعتها.
حدث كل هذا المشهد أمام ناظريّ وأنا جالسة أستمع وأشاهد، وكأني أشاهد فيلما سينمائيا، ففكرتُ في كلام الرجل العجوز، وقلت في نفسي: نعم، نحن كذلك لا نترك حياتنا تهدأ، أنا أثير زوجي، وهو يثيرني وبالتالي أنا أغضب وهو يغضب، فنعيش حياتنا كلها في غضب وإزعاج وعدم توافق.
ومنذ تلك اللحظة عزمت على التغيير، وبالفعل منذ ذلك اليوم ونحن نعيش بسلام.
قال أحد الإخوة: دعوني أحكي لكم حكاية أبي مع جدي، وهذه الحكاية رواها لي والدي.
يقول والدي إن جدي كان من رجالات البحر، يخرج هو مع مجموعة من زملاء البحر لصيد الأسماك والاستفادة من ثروات البحر، وكانت هذه مهنة جدي عن جده وعن جده، وهكذا.
استمرت الحياة على هذا المنوال، وكان والدي – وهكذا الكلام عن والدي – يأخذني إلى البحر بين فترة وأخرى وخاصة في الإجازات المدرسية حتى يورث لي المهنة، وبالفعل – كما يقول والدي – فقد كنتُ أعشق البحر. عاش والدي في البحر سنوات كما يقول، وأصبح صياد سمك محترفا.
ذات يوم من أيام الهدوء والصيف، طلب جدي من والدي أن يستعد للخروج إلى البحر كالعادة، فيقول والدي إنه قام بتجهيز الأدوات والمواد التي تحتاج إليها السفينة، وتم الاستعداد للخروج، وقد خروج بالفعل في الصباح الباكر كالعادة.
يقول والدي كان البحر هادئًا، فسارت السفينة بكل هدوء، وقام الجميع بدوره في اصطياد الأسماك، وقام الطباخ بصنع الغداء والقهوة والشاي، وبعد الغداء، استمرت عملية الصيد وكان الصيد وفيرًا، وجاء المساء، وهكذا فقد كانت الأمور تسير وفق وتيرة واحدة، وكانت كل الأمور هادئة.
وفي المساء نام عدد منا، وكنتُ أنا أحد الأفراد النائمين، وربما في منتصف الليل استيقظنا على صوت صراخ حاد «موج، استيقظوا»، فقمنا من النوم فزعين، تغيرت الأجواء بصورة حادة، فبعد أن كانت الأجواء والأمواج هادئة، تحول كل ذلك الهدوء إلى فيضانات وجبال من الأمواج التي لا يمكن أن نرى قمتها، وغدت السفينة ترتفع فوق الأمواج ثم تسقط بقوة، وتعود إلى الصعود والسقوط، فقام والدي – أي جدي – بربطي في سارية السفينة حتى لا أسقط في البحر، على اعتبار أن ربطي في السارية يمكن أن يمنع سقوطي في البحر.
استمر الوضع ربما ساعات، ربما دقائق، ربما ثوانٍ، لكنه استمر بطريقة أو بأخرى فترة من الزمن، وفجأة هدأ كل شيء وعادت الأمور كلها إلى ما كانت عليه مرة أخرى، ولا نعرف ما الذي حدث.
وعندما عدنا إلى البر، سألت والدي – أي جدي – عن هذا الأمر، فقال ببساطة: هكذا البحر، جميل ورائع، لكنه لا يؤتمن، تارة هادئ وتارة يثور، ولكن عليك أنت أن تتعلم حيث تتعامل مع هذا الكيان بكل احترام وتقدير، فإن لم تتمكن من ذلك فالخسارة تقع على رأسك.
استمرت أحاديث الإخوة والأخوات المدربين حول ذكرياتهم أو حكايات آبائهم وأجدادهم مع البحر، حكايات كثيرة وقصص جميلة، ربما استفاد الإنسان منها وربما لم يستفد، وربما نسي بعضنا ولكنها تبقى في الذاكرة، إذ إنها سوف تطفح على السطح ذات يوم ويتعلم منها عبرة.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك