أكذوبة أن الإسلام انتشر بحد السيف لا يصدقها عاقل لديه ذرة من عقل أو بصيرة، لأن العقائد لا تُبْنَى بالقوة المسلحة، لكنها تُبْنَى وتؤسس بالعقل الراشد والبرهان الساطع، وهذا ما دعا الإسلام الناس إليه حيث جعل شعاره في الدعوة هو قول الحق سبحانه: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي…» (البقرة).
إذًا، فالعقيدة التي تكون القوة والسيف هما السبيل إليها سرعان ما يرتد الناس عنها حين تغيب القوة، أو تضعف، لهذا كان القرآن العظيم واضحًا جليًا حين جعل الدليل والبرهان هما السبيل إلى الدعوة إلى الإسلام، وبداية ومن دون تشدد يقول القرآن في صريح آياته: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين» (النحل/125).
هذه الدعوة المباركة قَعَّدَ لها القرآن في قوله تعالى: «قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين» (يوسف/108).
والغاية هو الحق الذي نبحث عنه، يقول تعالى: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنَّا أعتدنا للظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا» (الكهف/29).
إن الحق الذي نتجادل حوله، ونحاور خصومنا فيه هو عند الله تعالى هو الحق، فالحق هو الغاية المطلوبة، والمرجوة من الحوار، ولقد يسر الله تعالى السبيل إليه حين أوضح السبل إليه، وذلل المصاعب من دروبه، فمنحنا عقولًا راشدة، ويسر لنا فهم القرآن، وقال في أكثر من آية إنه سبحانه وتعالى قد يسر لنا القرآن، فقال جل جلاله في أربع آيات من سورة القمر: «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر» (17، 22، 32، 40)، وهذا يعني أن الدروب إلى الحوار حول الحق سالكة، والسبل إليه ميسرة، وما على الإنسان إلا أن يستنهض همته، ويجمع أدلته وبراهينه من أجل إثبات حجته، وبلوغ غايته التي يرجوها. ولنضرب مثالًا على ذلك حين تجادل اليهود والنصارى حول حقيقة انتماء أبي الأنبياء إبراهيم (عليه الصلاة والسلام)، كل يريد شرف انتمائه إلى عقيدته، فادعى اليهود أن إبراهيم كان يهوديًا، وادعت النصارى أنه كان نصرانيًا، قال تعالى في شأنهم: «ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين» (آل عمران /67 )، ولأن الإسلام دين الأنبياء جميعًا من لدن آدم إلى محمد (صلوات الله تعالى وسلامه عليهم) نسبه الحق سبحانه إلي الإسلام ليعلن بذلك عالمية الإسلام وينهي الجدل حول انتماء نبي الله إبراهيم (صلى الله عليه وسلم)، وهذه طريقة القرآن في حواره مع الآخر يطالبهم بالدليل، ويتحداهم أن يأتوا بحجة تثبت دعواهم، والخصم حين يطالب خصمه بالحجة والبرهان، فهذا دليل على قوة موقفه وثقته بما لديه من براهين دامغة، وأدلة قاطعة، وفِي المقابل حين يحاول الخصم التهرب من تقديم الدليل فهذا برهان على ضعف موقفه، وتهافت أدلته وبراهينه، والقرآن العظيم لا يهاب المشاركة في الحوار، بل يسعى إلى ذلك في يقين وثبات لأنه واثق من الحق الذي يؤمن به، ويدعو الناس إليه.
والإسلام لا يتخلف عن الدعوة إلى المشاركة في أي حوار مع الآخر، وهو لا ينتظر مجيء الخصوم إليه، ولا يجشمهم عناء ولا مشقة البحث عنه، بل يجيئهم عظيمًا مهيبًا، ويحمل معه قوله تعالى: «وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا» (الإسراء/81).
إذًا، فالباطل زاهق بطبيعته لأنه لا يقوم على برهان ساطع أو دليل قاطع، بل على خرافات وأساطير ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، وسرعان ما تتهاوى حصونه أمام ضربات الإسلام الساحقة الماحقة لأن الخصوم الذين ينازلون الإسلام وأهله لا يملكون عقيدة راسخة، ولا كتابًا محفوظًا، ولا سنة راشدة، وصدق الله العظيم: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا» (المائدة/3).
ومن أدلة قوة الإسلام، وسطوع براهينه، وأنه لا يستند في قوة انتشاره إلى قوة خارجية إذا توقف دعمها، وتنكرت له ضعف وتخلف، إنما يستمد قوة انتشاره من قواه الذاتية، فمن قواه الذاتية أن كتابه، ودستوره محفوظ بحفظ الله تعالى له، قال سبحانه وتعالى: «إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» (الحج/9)، ولَم يكتف الحق سبحانه بهذا الضمان، بل حماه من أن يتعرض لأي تشويه أو تزوير، فقال سبحانه: «وإنه لكتاب عزيز (41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)». سورة فصلت.
وكذلك يستمد الإسلام في قوة انتشاره إلى الوعود التي أخذها الله تعالى على نفسه في قوله تعالى: «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (32) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون (33)» سورة التوبة.
ومن سماحة الإسلام، وحسن أدبه مع المخالفين له في الدعوة إلى الحق أنه لا يخشى الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، بل يسعى إليهما ليكشف من خلالهما عن الحق الذي لديه، بل هو يذكر حجج الخصوم وبراهينهم ولا يغمطهم حقهم، بل يضع بين يديهم التحدي تلو التحدي ليكشف سوءاتهم، ويبين بطلان ما يدعون، يقول تعالى: «قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا» (الإسراء/88)، ثم يتدرج معهم في التحدي إلى عشر سور مفتريات، ثم إلى سورة واحدة مفتراة فلم يقدروا على ذلك وبطلت دعواهم وتهاوت حصونهم.
هذا هو: الإسلام وهذا هو شعاره في الحوار، وهذه هي قواه الذاتية التي هزم بها خصومه منذ بزوغ فجر الدعوة، وسيظل كذلك.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك