عندما يُحذر الطبيب المريض من القيام بأي ممارسات، أو عادات مُحددة غير سليمة، فإن هذا التحذير يصب مباشرة في مصلحة المريض، ويهدف إلى حماية صحته من تفاقم المرض الذي يعاني منه، وعندما ينبه الأطباء المجتمع برمته إلى قضية معينة واحدة، فلا بد من أن هذه القضية ستكون لها أبعاد وتداعيات صحية خطيرة تهدد الأمن الصحي العام لكل أفراد المجتمع، فهم بهذه التحذيرات العامة يسعون إلى وقاية هذا المجتمع وحمايته من الأمراض والعلل التي حتماً ستنتج عن عدم مكافحة ومواجهة هذه القضية بالسلاح المناسب والقوي الذي يمنع المجتمع كله من السقوط في شر هذه الأسقام الحادة والمزمنة.
ففي المملكة المتحدة يوجه الأطباء والمتخصصون في مجال الصحة العامة، منذ عقود طويلة، نداءات وخطابات إلى رجال السياسة والتشريع بضرورة التنبه إلى قضية بيئية صحية تقتل البشر من جهة، وتفسد حياتهم وتعرضهم للوقوع في الأمراض المزمنة المستعصية من جهةٍ أخرى، فهم منذ زمن يرفعون العلم الأحمر ضد هذه القضية العاتية. وهذه القضية التي شغلت بال المعنيين بصحة الناس والمهتمين بعلاجهم في كل مدن العالم بدون استثناء وهي تلوث الهواء، حيث تُطلق عليه منظمة الصحة العالمية بالقاتل الصامت، علاوة على تصنيف الوكالة الدولية لأبحاث السرطان، وهي ذراع منظمة الصحة العالمية المختص بأبحاث السرطان تلوث الهواء بأنه «مُسرطن للبشر».
وآخر خطاب تم توجيهه إلى رئيس وزراء بريطانيا وإلى السلطة التشريعية كان في 4 أغسطس 2023، ووقع عليه من أكثر من 400 طبيب، وفي هذا الخطاب تحذير واضح لمواجهة تهديدات تلوث الهواء، الذي له تداعيات صحية وخيمة بشكلٍ يومي على المواطن البريطاني. فتلوث الهواء يمثل خطراً وتهديداً واقعين للبشر، حيث يقضي سنوياً ما بين 28 ألفا إلى 36 ألف بريطاني نحبهم بسبب استنشاق الهواء الملوث، وتُقدر الكلفة التي تتحملها الحكومة من هذه الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء بنحو 1.6 بليون جنيه للفترة من 2017 إلى 2025.
وجاء في هذا الخطاب أن: «تلوث الهواء يؤثر على كل فرد منَّا قبل أن نُولد حتى نصبح كباراً في السن، فتلوث الهواء لا يسبب فقط أمراض الجهاز التنفسي مثل الربو، ولكن يؤدي أيضاً إلى أمراض القلب مثل النوبات القلبية، وعدم انتظام دقات القلب، والسكتة الدماغية، واختلال في عملية نمو الأطفال، وسرطان الرئة، والخرف». كما أضاف الخطاب أن: «التعرض الطويل المدى لتلوث الهواء له علاقة بحالات مرضية مزمنة مثل أمراض القلب، وسرطان الرئة، وخفض معدل العمر المتوقع للإنسان، وتلوث الهواء لفترة قصيرة يسبب الكحة والسعال، والصفير، ونوبات الربو، وزيادة الدخول إلى المستشفيات».
كما أُرسلتْ من قَبْل بيانات وخطابات عامة أخرى أيضاً إلى رئيس الوزراء ورجال السياسة والتشريع عامة، منها الخطاب الذي نُشر في 15 يونيو 2023 تزامناً مع «يوم الهواء النظيف»، حيث وقَّع 36 عالماً معظمهم من العاملين في مجال الرعاية الصحية، جاء فيه: «لقد قدَّم لنا العلماء أدلة مفزعة حول تلوث الهواء، ولكننا كعاملين في مجال الرعاية الصحية تُركنا على الخط الأمامي، ونواجه الآثار المفجعة للهواء الملوث»، كما جاء فيه: «نحن نتعامل مع أطفال يعانون من عدم القدرة على التنفس، وآباء في حزن بسبب فقدان أطفالهم، وشباب وقعوا في السرطان وأمراض أخرى مزمنة، وكل هذا بسبب الهواء السام الذي نستنشقه».
كذلك أُرسلت خطابات مماثلة إلى رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، منها بالتحديد في 21 يونيو 2021، حيث أصدر الأطباء وعلماء البيئة تحذيراً إلى رجال السياسة والتشريع لعدم التهاون في قضية تلوث الهواء، وخاصة من عوادم السيارات، التي تسبب وفاة البشر في سن مبكرة، كما دعوا في الخطاب إلى تحسين جودة الهواء باتخاذ كل الإجراءات المناسبة، منها تخصيص مناطق في لندن منخفضة في انبعاث الملوثات (ultra low emission zone)، علماً بأن بريطانيا، ولندن خاصة ترتفع فيها نسبة الملوثات في الهواء الجوي إلى درجة أنها تفوق معايير منظمة الصحة العالمية. ومن ضمن ما ورد في الخطاب: «يُعد تلوث الهواء من أكبر العوامل البيئية المهددة للصحة، ويسهم في العديد من الحالات الصحية الخطيرة والمزمنة التي تصيب كل أعضاء الجسم. وعلى الرغم من ذلك فإن المواصفات في المملكة المتحدة للتلوث بالجسيمات الدقيقة التي قطرها أقل من 2.5 ميكروميتر، والتي تعد الأخطر مقارنة بباقي الملوثات، هي حالياً أكثر من ضعف توصيات منظمة الصحة العالمية». في الحقيقة، ان مثل هذه الخطابات والتحذيرات يجب أن تُوجه إلى كل دول العالم، بدءاً بالمنظمات الأممية المعنية بهموم البيئة كبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، وتلك المختصة بشؤون الصحة العامة للبشر مثل منظمة الصحة العالمية، وصولاً إلى جميع حكومات العالم، فقضايا تلوث الهواء، والبيئة بشكل عام ليست قضايا قُطْرية ومحلية حصرية وخاصة بمدينة واحدة في العالم، وإنما مثل هذه القضايا تعتبر عامة ومشتركة وتعاني منها كل مدن العالم على حدٍ سواء. فمصادر تلوث الهواء، على سبيل المثال موجودة في مدن بريطانيا، كما هي موجودة في معظم مدن العالم الحضرية، فمنها عشرات الآلاف من السيارات التي تبث سمومها الخطرة والمسرطنة في الهواء الجوي، ومنها محطات توليد الكهرباء التي تُطلق أيضاً ملوثات سامة تهلك صحة البشر، ومنها كذلك المصانع التي لا تعد ولا تحصى.
وتداعيات تلوث الهواء في البيئة الداخلية، والخارجية بصفة خاصة تتعدى في بعض الأوقات الحدود الجغرافية المصطنعة للدول، فتتحول إلى قضايا ذات أبعادٍ إقليمية أو دولية. فملوثات الهواء الحمضية، كأكاسيد الكبريت والنيتروجين وغيرهما، تنبعث إلى السماء العليا وتختلط بالماء فتكون المطر الحمضي الذي لا ينزل فقط على الدولة مصدر الملوثات، وإنما ينزل كذلك على الدول المجاورة، فيؤثر على البشر والشجر والحجر. وفي الوقت نفسه هناك غاز ثاني أكسيد الكربون والملوثات الأخرى التي تنبعث من كل شبر في الأرض، ومن كل مدينة غنية وفقيرة على وجه الأرض، فهي جميعها تلوث الهواء الجوي لكوكبنا برمته، وأدت خلال قرنٍ من الزمان إلى وقوع قضية العصر المعقدة والمتشابكة، وهي التغير المناخي وسخونة الأرض وتداعياته البيئية، والصحية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأمنية، التي يقع الآن تحت وطأتها وشدتها كل دول العالم، بل وتهدد استدامة العيش على كوكبنا الوحيد، فعجزوا جميعاً منذ أكثر من 50 عاماً عن إيجاد الحل الجماعي العادل والملزم للجميع.
وكما قام أطباء وعلماء بريطانيا بالاهتمام بقضية تلوث الهواء، أتمنى من أطبائنا وعلمائنا في البحرين إدماج قضية تلوث الهواء خاصة، والبعد البيئي عامة في جميع أعمالهم وممارساتهم اليومية، وحث أجهزة الدولة على وضع تلوث الهواء على رأس قائمة الأولويات، ودعوتهم إلى تحديد برنامج عمل تنفيذي لخفض مستوى الملوثات من مصادرها المختلفة، سواء كانت في الهواء، أو الماء، أو التربة، حماية لصحتنا وصحة فلذات أكبادنا من شرور الملوثات.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك