العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

كثير النسيان ولست مخرِّفا (1)

قبل‭ ‬عامين‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬خمسة‭ ‬أو‭ ‬عشرة‭ ‬أعوام،‭ ‬غادرت‭ ‬مقر‭ ‬إقامتي‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬القطرية‭ ‬الدوحة‭ ‬مع‭ ‬عائلتي‭ ‬في‭ ‬الإجازة‭ ‬الصيفية،‭ ‬وقبل‭ ‬التوجه‭ ‬إلى‭ ‬المطار‭ ‬قررت‭ ‬انني‭ ‬لن‭ ‬أكون‭ ‬بحاجة‭ ‬خلال‭ ‬الإجازة‭ ‬الى‭ ‬نحو‭ ‬الفي‭ ‬ريال‭ ‬كانت‭ ‬معي،‭ ‬وخبأتها‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬أمين‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬في‭ ‬تقديري،‭ ‬وسافرنا‭ ‬وعدنا‭ ‬بالسلامة،‭ ‬وظلت‭ ‬تلك‭ ‬النقود‭ ‬مخبأة‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المكان‭ ‬الأمين،‭ ‬أعني‭ ‬انني‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬تذكر‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬تركت‭ ‬فيه‭ ‬النقود،‭ ‬وظللت‭ ‬افرك‭ ‬رأسي‭ ‬وأقلب‭ ‬البيت‭ ‬فوق‭ ‬تحت‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭ ‬بلا‭ ‬طائل‭ ‬ثم‭ ‬تخليت‭ ‬عن‭ ‬محاولات‭ ‬العثور‭ ‬عليها

تلك‭ ‬الثروة‭ ‬الطائلة‭ ‬التي‭ ‬كاد‭ ‬فقدانها‭ ‬أن‭ ‬يقودني‭ ‬إلى‭ ‬قسم‭ ‬الحالات‭ ‬الطائلة‭ ‬الذي‭ ‬تسمى‭ ‬‮«‬الطوارئ‮»‬‭ ‬في‭ ‬المستشفى،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬ألهمتني‭ ‬فكرة‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭. ‬فقبل‭ ‬أيام‭ ‬قليلة‭ ‬كنت‭ ‬أنقل‭ ‬كتبا‭ ‬قديمة‭ ‬من‭ ‬رفوف‭ ‬مكتبة‭ ‬كحيانة‭ ‬احتفظ‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬النوم‭ (‬لأن‭ ‬وضع‭ ‬المكتبة‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬الضيوف‭ ‬يجعلها‭ ‬عرضة‭ ‬للسرقات‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬المعاملة‭ ‬بالمثل‭ ‬لأنني‭ ‬لص‭ ‬كتب‭ ‬محترف،‭ ‬ولكنني‭ ‬أمين،‭ ‬فأسرق‭ ‬عدة‭ ‬كتب‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬أو‭ ‬عدة‭ ‬أشخاص،‭ ‬ولا‭ ‬يكتشفون‭ ‬الأمر‭ ‬عادة‭ ‬إلا‭ ‬عندما‭ ‬أعيدها‭). ‬المهم‭ ‬انفتح‭ ‬كتاب‭ ‬وسقطت‭ ‬منها‭ ‬مئات‭ ‬الريالات‭ ‬القطرية‭. ‬أي‭ ‬الألفي‭ ‬ريال‭ ‬التي‭ ‬قمت‭ ‬بتخزينها‭ ‬قبل‭ ‬سنوات،‭ ‬ونظرت‭ ‬اليها‭ ‬بحقد‭ ‬ثم‭ ‬قمت‭ ‬بتمزيقها‭ ‬الى‭ ‬قطع‭ ‬صغيرة‭ ‬وألقيت‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬سلة‭ ‬القمامة‭.. ‬ستقول‭ ‬ان‭ ‬ابا‭ ‬الجعافر‭ ‬إما‭ ‬‮«‬مجنون‭ ‬رسمي‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬صار‭ ‬غنيا‭ ‬ومفتريا‭ ‬يلعب‭ ‬بالفلوس،‭.. ‬لا‭ ‬هذي‭ ‬ولا‭ ‬تلك،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬هناك‭ ‬هو‭ ‬ان‭ ‬تلك‭ ‬النقود‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬متداولة‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬قامت‭ ‬السلطات‭ ‬القطرية‭ ‬بتغيير‭ ‬العملة‭ ‬الورقية‭ ‬قبل‭ ‬بضع‭ ‬سنوات،‭ ‬وانقضت‭ ‬المهلة‭ ‬المحددة‭ ‬لتغيير‭ ‬العملة‭ ‬القديمة

كثيرون‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬آفة‭ ‬نسيان‭ ‬الأمكنة‭ ‬التي‭ ‬تركوا‭ ‬فيها‭ ‬أشياء‭ ‬مثل‭ ‬المفاتيح‭ ‬والنظارات‭ ‬والموبايل‭ ‬وطقم‭ ‬الأسنان،‭ ‬وكان‭ ‬أبي‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬مشكلة‭ ‬عدم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تذكر‭ ‬الأسماء،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬ناتجا‭ ‬عن‭ ‬خَرَف،‭ ‬بل‭ ‬ومنذ‭ ‬طفولتي‭ ‬وكان‭ ‬هو‭ ‬عندها‭ ‬شابا‭ ‬انتبهت‭ ‬الى‭ ‬أنه‭ ‬ينادي‭ ‬عياله‭ ‬بـ‮«‬يا‭ ‬ولد‭/ ‬يا‭ ‬بنت‮»‬،‭ ‬وينادي‭ ‬الآخرين‭ ‬‮«‬يا‭ ‬ابن‭ ‬العم‭ ‬ويا‭ ‬بنت‭ ‬العم‭ ‬وما‭ ‬الى‭ ‬ذلك‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة‭ ‬كانت‭ ‬تضيع‭ ‬منه‭ ‬‮«‬يا‭ ‬ولد‭/ ‬يا‭ ‬بنت‮»‬‭ ‬ويكتفي‭ ‬بـ‮«‬يااااا‮»‬،‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬تتجاوب‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬النداء‭ ‬صاح‭ ‬فيك‭: ‬انت‭ ‬أطرش؟

صارت‭ ‬آفة‭ ‬النسيان‭ ‬مصدر‭ ‬صداع‭ ‬يومي‭ ‬لي،‭ ‬ومشكلتي‭ ‬الكبرى‭ ‬هي‭ ‬النظارة،‭ ‬فلأنني‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬قصر‭ ‬النظر‭ (‬أي‭ ‬العجز‭ ‬عن‭ ‬رؤية‭ ‬الأشياء‭ ‬البعيدة‭) ‬فإنني‭ ‬أفضل‭ ‬النظر‭ ‬الى‭ ‬الأشياء‭ ‬القريبة‭ ‬جدا،‭ ‬بدون‭ ‬نظارات،‭ ‬وأن‭ ‬اقرأ‭ ‬المطبوعات‭ ‬بدون‭ ‬نظارات‭. ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬مترين‭ ‬مني‭ ‬يصبح‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬درب‭ ‬التبانة،‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬عدسات‭ ‬اصطناعية‭ ‬للنظر‭ ‬اليه‭. ‬وهكذا‭ ‬اخلع‭ ‬نظارتي‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬ثم‭ ‬أنسى‭ ‬أين‭ ‬تركتها،‭ ‬وقد‭ ‬يستغرق‭ ‬مني‭ ‬العثور‭ ‬عليها‭ ‬عدة‭ ‬ساعات،‭ ‬وحدث‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬أن‭ ‬غبت‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬نظارتي‭. ‬وما‭ ‬يجعل‭ ‬المشكلة‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدا‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬النظارة‭ ‬دون‭ ‬استخدام‭ ‬النظارة‭. ‬وحاولت‭ ‬علاج‭ ‬هذه‭ ‬المشكلة‭ ‬باقتناء‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نظارة‭ ‬ولكن‭ ‬المشكلة‭ ‬هي‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أتذكر‭ ‬أين‭ ‬وضعت‭ ‬النظارات‭ ‬الاحتياطية‭.‬

مشكلة‭ ‬النسيان‭ ‬هذه‭ ‬جعلتني‭ ‬عرضة‭ ‬للتجريح‭ ‬والإساءات،‭ ‬فكلما‭ ‬فشلت‭ ‬زوجتي‭ ‬في‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬حملتني‭ ‬مسؤولية‭ ‬ضياعه‭: ‬كروت‭ ‬المستشفى‭.. ‬كونترول‭ ‬التلفزيون‭.. ‬رقم‭ ‬تليفون‭ ‬عمتها‭.. ‬والأنكى‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سألتها‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬اتهمتني‭ ‬بالخرف‭ ‬والتخريف،‭ ‬وهي‭ ‬تهمة‭ ‬ظالمة‭ ‬لأنها‭ ‬تعتقد‭ ‬انه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬مسؤوليتها‭ ‬تذكر‭ ‬أي‭ ‬شيء،‭ ‬وتستخدمني‭ ‬كموبايل‭ ‬او‭ ‬كمبيوتر‭ ‬لتخزين‭ ‬المعلومات‭ ‬والأرقام‭.. ‬وبصراحة‭ ‬فقد‭ ‬صرت‭ ‬أشك‭ ‬بالفعل‭ ‬في‭ ‬قواي‭ ‬العقلية‭ ‬واعتقد‭ ‬أنني‭ ‬أصبت‭ ‬بالخرف‭ ‬‮«‬المبكر‮»‬‭ ‬مما‭ ‬جعلني‭ ‬أجري‭ ‬بعض‭ ‬البحوث‭ ‬العلمية‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭.‬

وغدا‭ ‬نواصل‭ ‬بحول‭ ‬الله‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا