في ضوء التحليلات السائدة لتحول الطاقة بعيدًا عن الاعتماد على الوقود التقليدي، مثل النفط، والفحم، والغاز الطبيعي، والاتجاه نحو أشكال بديلة متجددة، كالرياح، والشمس، والهيدروجين، تمت الإشارة إلى كيفية تأثير هذا التحول على العلاقات بين الاقتصادات الغربية المتقدمة، والدول المصدرة للوقود الأحفوري مثل دول الخليج، وبين الأخيرة، وأسواق شرق آسيا، وعلى الأخص «الصين»، و«اليابان».
وعلى وجه الخصوص، تم إبراز هذه الديناميكية مع الجولة التي قام بها رئيس الوزراء الياباني «فوميو كيشيدا»، بالمنطقة منتصف يوليو 2023، لتحديد الشكل المستقبلي لعلاقات الطاقة، والتي شملت زيارات لـ«السعودية»، و«قطر»، و«الإمارات»، وتركز فيها اهتمامه على معالجة المخاوف الطويلة المدى المتعلقة بأمن الطاقة، مع التركيز على تعزيز التعاون في مجالات الطاقة الخضراء والمتجددة. وفي هذا الصدد، أشار المعلقون إلى أهمية الاتفاقيات التي تم توقيعها بين الإمارات واليابان في مجال تطوير وإنتاج الطاقة الخضراء، وهذا «يخدم مصالح طوكيو في تنويع مصادر الطاقة المتجددة، «ويعزز مكانة أبو ظبي والخليج كمورد موثوق للطاقة الخضراء» .
وفي الوقت الحالي، تعتبر روابط الطاقة الهيدروكربونية بين الخليج وشرق آسيا جديرة بالاعتبار. وبعد أن توسعت وارداتها من النفط الخام من 145 مليون طن عام 2006، إلى 508 ملايين طن عام 2022، ونما اقتصادها الوطني بنسبة 550% خلال نفس الفترة الزمنية؛ أصبحت «الصين»، أكبر شريك اقتصادي خارجي بالنسبة الى دول الخليج مجتمعة.
ووفقًا للمعلقين، فإن «بكين»، «تعتمد حاليًا على نفط الخليج»، حيث حصلت على حوالي 50% من وارداتها من المنطقة عام 2022. ولا يزال هذا الوضع قائمًا على الرغم من أنها شهدت خلال الفترة الأخيرة زيادة في وارداتها من روسيا. فيما عززت أيضًا علاقاتها بواردات الغاز الطبيعي مع «قطر» من خلال اتفاقيات مدتها 27 عامًا بين «مؤسسة سينوبك»، الصينية»، و«قطر إنرجي»، بهدف تصدير 4 ملايين طن من الغاز الطبيعي المسال كل عام.
وبشكل أكبر، تعتمد «اليابان»، على النفط الخام من الشرق الأوسط. وبعد أن خفضت مشترياتها من النفط والغاز من روسيا جراء حربها في أوكرانيا؛ بلغ اعتمادها -وفقًا لوزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية- على النفط القادم من المنطقة، بنسبة وصلت إلى 97.7% في يوليو 2022، وهو أعلى مستوى من الاعتماد تم تسجيله على الإطلاق، حيث تستقبل أكثر من 90% من استخداماتها من الوقود. ولاحظ «سالم السعيد»، من موقع «المونيتور»، أن حالة التقلب المستمرة في سوق الطاقة العالمية، قد أدى إلى معاناتها من «مصادر طاقة أقل موثوقية وكفاءة، وزيادة أسعارها». وأشار «شيجيتو كوندو»، من «معهد اقتصاديات الطاقة»، إلى أنه نظرًا الى أن «المزيد من الطلب على صادرات الطاقة الخليجية يأتي من اليابان، والصين، وكوريا الجنوبية؛ فإن «المنافسة بين المشترين عالية جدًا»، وهو ما وضع دول الخليج «في موقف قوي للاستمرار في توقع أسعار بيع أعلى لصادراتها النفطية.
ووفقا للعديد من المراقبين، فإنه إذا كان «الوصول إلى أسواق النفط المستقرة، سيظل الشغل الشاغل لأمن الطاقة لدى اليابان في المستقبل القريب»؛ فإنها على المدى الطويل، تؤيد الجهود الدولية لمكافحة الاحتباس الحراري من خلال خفض انبعاثات الكربون، والالتزام بمستوياته. وإلى جانب أكثر من 130 دولة أخرى، أعلنت في أكتوبر 2020، هدفها للوصول إلى مستويات صفرية لانبعاثات الكربون بحلول عام 2050، غير أنها حددت هدفًا أكثر طموحًا من خلال تقليل انبعاثاتها بنسبة 46% في عام 2030، مقارنة بمستوياتها في عام 2013. ولتحقيق ذلك، تركز استراتيجيتها للنمو الأخضر في يونيو 2021، بشكل خاص على 14 مجالًا للتنمية، بما في ذلك استغلال طاقة الرياح البحرية، وإعادة تدوير الكربون، وبطاريات التخزين، والتوسع في استخدام الطاقة الشمسية والهيدروجينية.
ونظرًا لأن «طوكيو»، في عام 2023، لا تزال تعتمد على النفط والغاز بشكل كبير، حيث يمثل ما يقرب من 85% من استخدامها للطاقة؛ فإن الفوائد الطويلة الأجل للبحث والتطوير في مجال الأمونيا الخضراء، والهيدروجين، «ملحوظة»، خاصة مع الإشارة إلى ضرورة استخدامها من مصادر «لا ينبعث منها «الكربون». وأوضحت «كارين يونغ»، من «جامعة كولومبيا»، أن «دول الخليج تقدم نفسها كمحركات وقوى دافعة نحو الانتقال العالمي إلى الطاقة النظيفة»، وتبحث عن شراكات جديدة مع اليابان والبلدان المتقدمة في مجال الطاقة».
وعليه، فإن زيارة «كيشيدا»، الأخيرة إلى الخليج، ومداولاته في «الإمارات»، على وجه الخصوص، هي «دليل»، على أن بلاده «تعمق علاقاتها الاستراتيجية والاقتصادية مع المنطقة بشكل أوسع»، فضلا عن تعزيز المبدأ المشترك نحو تقليل انبعاثات الكربون. وأوضح «السعيد»، أن وجهات نظرها تجاه التحول إلى الطاقة النظيفة، أكثر تشابهًا مع وجهات نظر مصدري الطاقة الخليجيين».
من جانبه، أوضح «كوندو»، أن «طوكيو»، تسعى إلى «تعزيز استخدام الطاقة المتجددة»، مثل الأمونيا الزرقاء بديلا عن الوقود الأحفوري». وأشار «السعيد»، إلى الكيفية التي ركزت بها على تقنية «تخزين الكربون»، بالتزامن مع تطلع دول الخليج إلى «الانتقال التدريجي بعيدًا عن الاعتماد على الهيدروكربونات».
وعند زيارة الخليج، وقع «كيشيدا»، العديد من الاتفاقات مع «السعودية»، و«قطر»، والإمارات. وفي بداية جولته التقى مع ولي العهد السعودي، الأمير «محمد بن سلمان»، حيث جددت «طوكيو»، و«الرياض»، التزامهما بأمن الطاقة والتعاون في تطوير وإنتاج الهيدروجين والأمونيا والوقود الكربوني المعاد تدويره عبر 26 اتفاقية. وفي محطته الأخيرة زار «قطر». وعلى الرغم من عدم التوصل إلى اتفاق بشأن تصدير الغاز الطبيعي المسال، فقد وافق على الارتقاء بعلاقات بلاده مع الدوحة من «شاملة»، إلى «استراتيجية».
وجاءت أبرز الاتفاقيات مع «الإمارات»، مستندة إلى الاتفاقيات القائمة عام 2021، والمعنية بالتعاون في إنتاج الهيدروجين؛ واتفاق الشراكة الاستراتيجية لعام 2022 بشأن تنمية الطاقة النظيفة؛ فضلا عن إبرام «جيرا اليابانية» اتفاق تعاون استراتيجي مع شركة «بترول أبوظبي الوطنية» (أدنوك) للتعاون في مجال الهيدروجين. وفي منتدى الأعمال «الإماراتي-الياباني» وقع «كيشيدا» 23 اتفاقية؛ لتعزيز التعاون في مجالات أمن الطاقة والصناعة والتكنولوجيا المتقدمة والتكامل الاقتصادي وتحسين النقل. فيما وافقت «أبو ظبي» على الاستثمار في إنتاج أشباه الموصلات، والبطاريات اليابانية.
وكجزء من خطط بلاده الأوسع المتعلقة بمبادرة إنشاء «مركز عالمي لتوريد الطاقة الخضراء» إلى الخليج، أعرب رئيس الوزراء الياباني عن دعم بلاده لكل من «الإمارات»، و«السعودية» في تطوير الطاقة الشمسية، ومنشآت إنتاج الأمونيا الخضراء التي يمكن تصديرها بعد ذلك إلى شرق آسيا، وتعهده «بتسهيل التعاون في إنتاج الهيدروجين، لتسريع انتقال الطاقة النظيفة»، مشيرا إلى كيفية تعزيز التعاون الحالي والمستقبلي في هذا المجال في ضوء استغلال «المزايا الجغرافية، وموارد الطاقة المتجددة منخفضة الكلفة، والقدرات الاستثمارية القوية» في المنطقة من ناحية، وتقنيات إزالة الكربون باليابان من ناحية أخرى.
وبالنسبة إلى «طوكيو»، أشار المراقبون إلى أن «توسيع التعاون الاستراتيجي لها في الخليج، يظل أمرًا أساسيًا لحماية احتياجات الطاقة المحلية المتزايدة»، لكن على نطاق أوسع، يُنظر إلى حتمية التغيير في علاقاتها في مجال الطاقة مع الخليج على أنه ضروري لإعادة توازن نفوذها الاقتصادي المتراجع ونقاط ضعفها الاستراتيجية في مواجهة الصين، مؤكدين أنه في حين «كان يُنظر إلى اليابان -ولا يزال- على أنها قوة تقنية قادرة على المنافسة في السوق»، لكنها الآن «تواجه انخفاضًا في أعمار سكانها، وهو ما يؤثر على نموها الاقتصادي وميزاتها التنافسية».
وبالإشارة إلى أن المنافسين الإقليميين أمثال «الصين» و«كوريا الجنوبية» و«الهند»، قد «تجاوزوا اليابان في قطاع التكنولوجيا»؛ فإن الدور القيادي في التحول العالمي للطاقة، يمكن أن يساعد الأخيرة على استعادة مكانتها الرائدة في إدارة دفة اقتصادات شرق آسيا. وأشار «بيتر لاندرز»، في صحيفة «وول ستريت جورنال»، إلى أنها في الوقت الحالي «ليس لديها وقود أحفوري خاص بها تقريبًا»، وتعتمد على وارداتها من الشرق الأوسط، ما يمثل قيدًا استراتيجيًا رئيسيًا في ظل منافستها الأمنية مع الصين. ومع تسليط الضوء على قلقها من «النفوذ السياسي المتزايد لبكين في الخليج»، أوضح وزير الاقتصاد الياباني، في قمة مجموعة السبع مايو 2023، أن هذا الأمر يمثل تهديدًا لبلاده لأنه، إذا «انجرفت إلى حالة حرب مع الصين بسبب أزمة تايوان، فقد يكون هناك احتمال لعدم قدرتها في الحصول على نفط الشرق الأوسط».
ونظرًا إلى النسبة الكبيرة من احتياجات الطاقة اليابانية التي تأتي من المنطقة حاليًا؛ فإن إرساء أمن أفضل للطاقة يعد «ضرورة ملحة». واعترافًا بهذا الضعف الاستراتيجي والاستمرارية في الاعتماد الكامل على المنطقة لاحتياجاتها من الطاقة، واصلت شراء الغاز الطبيعي والنفط من روسيا على الرغم من معارضة الولايات المتحدة وأوروبا، حتى انها فعلت ذلك بسعر أعلى من الحد الأقصى للسعر الذي فرضه الغرب عند مستوى 60 دولارًا للبرميل.
وعند النظر في الاعتبارات الطويلة المدى المتعلقة بهذا الضعف الاستراتيجي، وعلاقة ذلك بموقف الصين كشريك اقتصادي للخليج؛ خلص المراقبون إلى أنه لتعويض «نفوذ بكين المتزايد في الخليج»، يجب أن تستمر «طوكيو»، في العمل على «تلبية الاحتياجات المتغيرة لشركائها الخليجيين، حيث إن الاقتصاد العالمي بدأ «يتحول نحو عصر إزالة الكربون».
علاوة على ذلك، فإن الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة يوفر أيضًا لليابان وسيلة لكسر اعتمادها على البلدان، والمناطق الأخرى التي تلبي احتياجاتها من الطاقة. وذكرت «كاتيا جولوبكوفا»، و«يوكا أوباياشي»، من وكالة «رويترز»، أنها تهدف إلى أن تصبح واحدة من أكبر منتجي طاقة الرياح البحرية في العالم، جنبًا إلى جنب مع «المملكة المتحدة»، و«الصين»، فيما تسعى أيضا إلى توفير مصادر الطاقة المتجددة لما يصل إلى 38% من استهلاكها للكهرباء بنهاية 2030. واعتبارًا من عام 2025، ستحتاج جميع المنازل الجديدة التي تم بناؤها إلى تزويدها بألواح شمسية لخفض مستويات انبعاثات أجهزة التدفئة المنزلية.
ومع مخاوفها المستمرة بشأن وضع الصين ومشاركتها في اقتصاديات الشرق الأوسط والخليج، وحاجتها إلى تحسين اكتفائها الذاتي من الطاقة والأمن -حال وقوع السيناريو الأسوأ وهو الحرب بينها وبين بكين في منطقة شرق آسيا- فإن العلاقات بين اليابان ودول الخليج تستمر في التسارع. وفي ضوء اتفاقياتهما لتعزيز تنمية الطاقة النظيفة المتبادلة، أكدت «اليابان»، و«الإمارات»، «أهمية التحول التدريجي للطاقة»، وسط تجنب «التوقعات غير الواقعية»، و«التداعيات الاقتصادية السلبية المرتبطة بالتحول السريع إلى الطاقة المتجددة»، قبل الاضطرار الى توفير متطلبات البنية التحتية والإمداد على نطاق أوسع وفي وقت قصير».
على العموم، فإن التحسن في العلاقات بين «اليابان»، و«دول الخليج»، سيكون له آثار إيجابية لتعاون اقتصادي أوسع. وإلى جانب اتفاقيات التعاون في مجال الطاقة التي وقعها «كيشيدا»، في «الإمارات»، و«السعودية»؛ تمت الإشارة إلى كيف أدى خفض حدة التصعيد الإقليمي الأخير إلى جعل المنطقة أكثر جاذبية للشركات اليابانية للعمل والاستثمار، وهو ما ساعد «طوكيو»، في زيادة الاهتمام بالتوصل إلى «اتفاق للتجارة الحرة مع دول مجلس التعاون، وبمشاركتها مع دول الخليج في تطوير الطاقات النظيفة، يمكن توقع تعاون أوثق لتحقيق هذه الغاية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك