لن يكون خبراً مفاجئا بالنسبة إلى مقتدى الصدر أن يعرف أن خصميه في تحالف الإطار التنسيقي، نوري المالكي وهادي العامري، هما اللذان يديران عمل الحكومة ويتحكمان في قرارات رئيسها محمد شياع السوداني، ويسيطران على الدولة العراقية بعدما خسرا في الانتخابات الأخيرة. ذلك ما يعتبره حدثاً طبيعياً في سياق صراع القوى بين مكونات النظام الطائفي. فالأول يستمد قوته من الدولة العميقة التي قُدر له أن يؤسسها على أنقاض الدولة العراقية عبر سنين حكمه الثمانية، والثاني كان دائماً رجل إيران الأول في العراق، لا لأنه إيراني الجنسية والهوى والعقيدة فحسب، بل أيضاً لأنه كان الأكثر قرباً من قاسم سليماني من جهة ولائه للحرس الثوري الإيراني.
ولكن الصادم بالنسبة إلى الصدر أن يعرف أن الاثنين بعدما سمحا لقيس الخزعلي زعيم مليشيا عصائب أهل الحق بمشاركتهما في الحكم، صارا يشعران بالخوف من إمكان أن يكتسحهما في الانتخابات المحلية المقبلة. وهو ما يعتبره زعيم التيار الصدري خطراً يهدد شعبيته في قلب المناطق التي هي جزء من إرثه العائلي الذي فشل الكثيرون في الاهتداء إلى الطريق التي تقود إليه. كان ذلك سره الذي يشعر أن في إمكان الخزعلي إفشاءه ومن ثم التلاعب به، وصولاً إلى نسف الإمبراطورية الصدرية. ولكن هل يملك زعيم مليشيا، كانت إلى وقت قريب هي الأقل عدداً وأضعف عدّة بين الميليشيات، ما لا يملكه خصوم الصدر التقليديون؟
بالرغم من أن قيس الخزعلي كان أحد أفراد جيش المهدي وأحد المقربين من مقتدى الصدر، غير أن بدايات انشقاقه تعود إلى زمن، كانت فيه إيران لا تنظر بارتياح إلى تقلبات مزاج الصدر الذي لم تعتبره رأس حربة فيما يُسمى بـ«المقاومة الإسلامية». كان الصدر يقاتل الأمريكان مضطراً ويفاوضهم تحت الطاولة، وهو على يقين من أن شركاءه الشيعة يودون التخلص منه في أسرع وقت. استطاع الخزعلي في وقت قياسي أن يخترق الحاجز الذي يفصله عن إيران ليكون من خلال مليشياته الرجل الذي ينفذ مشروعها في إنهاك القوات الأمريكية والقيام بضربات غير متوقعة، لا في زمنها ولا في مكانها.
من غير أن يتورط بالدخول في معركة مباشرة مستفيداً من أخطاء الصدر، أنجز الخزعلي مهمات قتالية، أثلجت قلوب الإيرانيين حين صارت الولايات المتحدة في حاجة إلى مزيد من إسنادهم حفاظاً على أرواح قواتها والمتعاونين معها من طواقم الشركات الأمنية. ما لم يتوقعه أحد من حزبيّ العملية السياسية الشيعة أن ينتقل الرجل الذي تحوم حوله شبهات جرائم كثيرة ارتُكبت أثناء الحرب الأهلية بين عامي 2007 و2008 إلى العمل السياسي، وخصوصاً بعدما وضعت الولايات المتحدة تنظيمه المسلح على قائمة الإرهاب، لكن الوقائع أثبتت حقيقتين: أولاهما، أن الحزبيين العراقيين الشيعة الموالين لإيران لا يعرفون كل ما يدور في العقل السياسي الإيراني فيما يتعلق بالعراق، وثانيتهما، أن الولايات المتحدة غير راغبة في الدخول بصدام مع إيران حتى لو تعلق الأمر بمليشيا هاجمت قواعدها العسكرية وقتلت عدداً من جنودها وخطفت عدداً من المتعاونين معها.
مثل معلمه الصدر لم يتخلّ الخزعلي عن عباءة رجل الدين وعمامته، ومثله أيضاً كان كثير الهفوات حين يتحدث في السياسة. غير أن خصوم الصدر السياسيين في البيت الشيعي لم يناصبوه العداء بسبب حسابات تعلموها من خبرة تعاملهم مع أجهزة النظام الإيراني. كان انتقال الخزعلي من المقاومة الإسلامية إلى عالم السياسة متاحا وحظي بمباركة الأحزاب الشيعية التي عمل زعماؤها على إلحاقه في آخر القائمة إرضاءً لإيران، معتقدين أنه سيبقى هناك.
لم يكن ابن مدينة الصدر (سبق لها أن سُميت مدينة الثورة ومدينة صدام) ليتوقف عند الحدود التي وضعها الآخرون لحركته. ومثل معلمه لم ينكفئ على ما حصل عليه من امتيازات مالية وسياسية اعتبرها جزءاً من استحقاقه (النضالي)، بل كان يصبو إلى دور قيادي يثبت من خلاله أنه الأكثر كفاءة في الدفاع عن المصالح الإيرانية في العراق، سيكون الدفاع عن المذهب واجهة لها. ما يخيف منافسيه في كلا الفريقين (الصدر من جهة والمالكي والعامري من جهة أخرى) أن زعيم العصائب نجح في كسب ثقة إيران من خلال بوابة الحرس الثوري، وفي الوقت نفسه كشف عن كفاءة لافتة في اجتياح المناطق التي يسيطر عليها الصدر من خلال خطاب وممارسة تردان الاعتبار إلى الكثيرين ممَن شعروا أن الصدر قد خذلهم حين تخلى عن أصواتهم هارباً إلى عزلته.
استفاد قيس الخزعلي من تداعيات الصراع بين الصدر وخصومه التنسيقيين في تعزيز مواقعه داخل البيئة الفقيرة التي يتحرك فيها الصدر. تلك هي بيئته التي نشأ فيها واختبر شفرات الدخول إليها. كما أنه في الوقت نفسه كان قد رفع من سقف مطالباته في الحصول على مزيد من الامتيازات، وخصوصاً على مستوى التشكيلة الحكومية التي صار يعلن أن حصته فيها لا تعبر عن حقيقة الموقع الذي تحتله حركته في إطار التمثيل الشيعي. ما لم يعد خافياً على طرفي الصراع الشيعي القديم أن هناك قوة جديدة يمكن أن تكتسح المجالس البلدية في المحافظات ذات الأغلبية الشيعية وبغداد، غير أن ذلك التحول، وإن كان يطوي صفحة الأحزاب التقليدية، فإنه سيكون بمثابة الباب الذي ستدخل من خلاله حكومات محلية تديرها مليشيا، ستحرص على أن توجه عمليات الفساد لمصلحتها.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك