يتمثل دور الطاقة بشكل جلي في مظاهر حياة الإنسان البشرية وأنشطته. مفهوم انتقال أو تحول الطاقة (Energy Transition) ليس في الواقع مفهوما جديدا، لكنه امتداد لما كنا نشهده دائما. بعض تحولات الطاقة السابقة كانت مدفوعة باكتشاف موارد طبيعية جديدة (كاكتشاف النفط مثلا)، والأخرى مدفوعة بالتغيرات التكنولوجية (اكتشاف المحرك) بينما بعضها كان محركها سياسيا. التحول الذي نحن بصدده حاليا دوافعه تكنولوجية-سياسية، لكن الرغبة في الاستجابة لمخاطر تغير المناخ الملحة هي الدافع الأبرز. رغم أن مساهمة مملكة البحرين الكربونية لا تتعدى 0.07% من الانبعاثات العالمية، لكنها ليست في منأى عن تبعات السياسات العالمية الرامية إلى الحد من الانبعاثات الكربونية التي قد ترمي بظلالها على شرايين الاقتصاد المحلي القائم على الصناعات المختلفة كصناعة تكرير النفط والغاز والبتروكيماويات والألمنيوم والحديد والإسمنت وغيرها، والتي تتطلب سلاسلها الإنتاجية الكثير من الطاقة. فعلى سبيل المثال لا الحصر: هناك توجهات أوروبية لتحديد مستوى انبعاثات أقصى لصناعة الألمنيوم تبلغ 4 أطنان مترية من ثاني أكسيد الكربون لكل طن متري من الألمنيوم المنتج في المصهر. وللقارئ أن يتخيل كيف سيكون وقع هذه السياسة في حال طبقت هذه السياسة على قِسط الألمنيوم المُصَدر لهذه الدول، التي تعتمد على الغاز الطبيعي بشكل رئيسي لإنتاج الكهرباء في عملية صهر وتنقية الألمنيوم، والتي بالتأكيد تتجاوز حاليا المستويات الكفيلية ببقائها في حيز التنافسية الاقتصادية.
عملية تأمين الطاقة في ظل الأزمة المناخية الحالية على كوكب يبلغ عدد سكانه سبعة مليارات ونصف المليار نسمة، ويتجه نحو 9 مليارات بحلول عام 2040 هو تحدٍ كبير ويتطلب مجهودات أكبر من الجميع. وحينما يتم التحدث عن الطاقة ومصادرها وطرق توليدها في سياق الأزمة المناخية، يجب أن يكون ذلك من خلال مثلث توازن الطاقة وهي كالتالي. أولا: أن تكون الطاقة ذات سعر في متناول الجميع، الغني والفقير، ثانيا: أن تكون متوافرة ومتاحة بموثوقية عند الحاجة إليها، وثالثا: أن تكون أكثر نظافة للحد من تأثيراتها على البيئة. لذلك تلعب السياسات الموضوعة دورا مهما وجوهريا في تحقيق التوازن المنشود وهي تختلف باختلاف الدول. فاتفاقية باريس للمناخ كانت من المرونة أن جعلت لكل دولة الحرية في تحديد مسارها الخاص للوفاء بتعهداتها البيئية، وذلك لأن الحالة التنموية للدول وأولوياتها التنموية ومواردها المحلية تتمايز. فدولة في إفريقيا تختلف عن تلك الموجودة في منطقة الخليج أو أوروبا الغربية.
على سبيل المثال، الدول ذات الاقتصاد النفطي والخبرة التراكمية في صناعة النفط والغاز والممتدة نحو قرن من الزمن تقريبا كالبحرين ودول الخليج يجب أن يكون مسارها نحو تحقيق أهداف اتفاقية باريس متناسبا وهذا الإرث من الخبرة التقنية المتراكمة والثروات الطبيعية، فنحن لدينا الخبرة لإدارة المخزون الكربوني، غازًا كان أم نفطاً. فنحن نقوم باستخراجه، ومن ثم تحويله إلى شكل أكثر قابلية للاستخدام، ثم نقوم بإيصاله الى المنتفعين به، وبالتالي لدينا كفاءة عميقة في التقنيات المصاحبة وسلاسل القيمة وعلاقات وثيقة مع مصنعي المعدات المستخدمة في هذه الصناعة، لذلك كان من الأحرى أن تستثمر هذه الكفاءة والخبرة المتراكمة في إدارة سلاسل الإنتاج الكربونية في توجيه استراتيجيات تحول الطاقة.
فالابتكار في التكنولوجيات المنخفضة الكربون كتقنيات الوقود الحيوي وإنتاج الهيدروجين وتخزينه ومزجه مع الغاز الطبيعي في مولدات توربينات خاصة، واحتجاز الكربون وتخزينه هي تقنيات نمتلك خلفياتها التقنية وبنيتها التحتية، وبالتالي قد يكون من الأفضل التركيز عليها، إضافة بالطبع إلى زيادة رقعة الطاقات المتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح في المزيج المنتج رغم القيود الجغرافية والتضاريسية المعروفة المتاحة لدينا. على الجانب الآخر، يتطلب تحول الطاقة إلى سياسات وأطر تمويلية غير تقليدية. تحديد أسعار معينة على انبعاثات الكربون هو أحد الآليات المطبقة حاليا في أوروبا وكندا على سبيل المثال لتمويل مشاريع تحول الطاقة. وبالتالي هناك حاجة إلى إيجاد نوع من الإطار التجاري يتناسب والسياق المحلي ويجب تمكينه من خلال وضع السياسات المناسبة من أجل خلق نموذج أعمال ناجح يحفز الاستثمار في هذا المجال. إن فهم السياق العالمي والإقليمي وبالطبع المحلي يعتبر عاملا مهما في تحديد موقع البحرين في خارطة تحول الطاقة، وهو ما يتطلب بناء قدرات محلية على دراية بنواحي هذا التحول الجديد حتى يتناسب ومستوى الحلول المقترحة في القطاعات المختلفة وحجم التحدي الحقيقي. تعتبر المعرفة محرك العملية الإنتاجية ومحورا رئيسيا في خلق الثروة وتعتمد كليا على رأس المال الفكري ومقدار المعلومات التراكمية لدى المؤسسات وكيفية تحويل هذه المعلومات إلى معرفة ثم كيفية توظيف المعرفة فيما يخدم البعد الإنتاجي.
من أجل ذلك ولمواكبة التغيرات الديناميكية في هذا المجال الحيوي وما يتطلبه من إعداد كفاءات لديها المهارات اللازمة لمعالجة القضايا التقنية والاقتصادية والبيئية المتعلقة بأنظمة الطاقة المستدامة المختلفة، تم مؤخرا تصميم برنامج ماجستير بقسم الهندسة الكيميائية بجامعة البحرين ينسجم والتعهدات التي أعلنها سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزاء – حفظه الله – في مؤتمر الأطراف (COP26) في مدينة جلاسكو بالمملكة المتحدة. يتمحور البرنامج على أربعة محاور: أنظمة الطاقة المستدامة (الوقود الحيوي والمصافي الحيوية)، توليد الطاقة وتخزينها (إنتاج الهيدروجين وتخزينه)، سياسات الطاقة وتمويلها، ورقمنة قطاع الطاقة. نعتقد أن الإلمام بهذه الجوانب الأربعة سيسهم في إعداد كوادر قادرة على تحقيق أهداف تحول الطاقة وجعلها متاحة بسهولة وبأسعار معقولة وأنظف للبيئة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك