الأصل في الولايات المتحدة هو ضرورة الاستقرار السياسي لتكون الدولة متقدمة وقوة عظمى، وفيها ما يحلم به بقية البشر من اختراق للفضاء والجامعات التي تنتج بشراً من نوع خاص، وهوليوود والفنون الأخرى تخلق خيالات لا تكف بل تلح على الإنسان في أركان المعمورة أن يكون له من كل ذلك نصيب وحظ.
الحسبة الأمريكية بسيطة، وعندما تضيف الرأسمالية إلى الليبرالية إلى الديمقراطية، فإن كل ما يحتاج إليه أو يحلم به بنو آدم يمكن الحصول عليه بسبب المنافسة التي تعطي الأعلى جودة والأقل سعراً، والحرية التي تُخرج من الإنسان عبقريته، وقاعدة الأغلبية والأقلية التي تمنع كل أنواع المشاحنات والصراعات والنزاعات، فمَن كان مع الأغلبية فاز، ومَن كان مع الأقلية فعليه أن ينتظر المرة القادمة حتى تكون أغلبية.
كل أمر مُدبَّر ومُحكَم، وهناك الدستور الذي توجد به كل الحدود والنهايات، التي إذا ما جرى الالتزام بها من قِبَل جماعة بشرية، فإنها سوف تكون في أحسن الأحوال. هذه الثقة الكبيرة في الأطروحة الكونية الأمريكية شجعتها على أن تكون المرجعية التي يُقاس عليها، وكم من البشر يقولون بين وقت وآخر: إن ذلك أو ذاك يحدث في أمريكا. وللحق، فإنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فإن أمريكا لم تطل على العالم مسلحة بأنها القوة التي لديها السلاح النووي والقادرة على استخدامه، وإنما هلّت بقدر هائل من الجاذبية والذكاء والإبهار.
والمدهش في هذا الأمر أن الولايات المتحدة أنهت القرن العشرين وهي قوة عالمية وكونية، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ومعه التجربة الاشتراكية، فإنها باتت تتطلع إلى أن يكون القرن الواحد والعشرون قرناً أمريكيًّا.
كان ذلك ما قاله ونشره مَن عُرفوا بالمحافظين الجدد، الذين دخلوا إلى البيت الأبيض مع الرئيس جورج بوش الابن.
هذا الدخول ربما كان أولى علامات التراجع الأمريكي عندما بات هناك خلاف دستوري عمّن كسب الانتخابات الأمريكية، وعما إذا كان آل جور، نائب الرئيس السابق، وهو الذي حصل على الأغلبية الشعبية يستحقها وليس الأغلبية المستندة إلى أصوات أغلبية الولايات. مرت هذه الواقعة بسرعة، فلم يكن أحد مستعدّا لوضع الدستور الأمريكي موضع المساءلة في قضية حرجة بهذا القدر، ولكن الحقيقة باتت أن الانتخابات التي أتت بجورج بوش الأب إلى السلطة، ولفترة واحدة، ثم انتخاب بيل كلينتون، هي الانتخابات التي جرت وفق الأحلام القديمة. الرئيس الذي جاء في القرن الجديد سرعان ما كان عليه مواجهة أحداث 11 سبتمبر، ومن بعدها الحروب في أفغانستان والعراق لكي تصير كلها «حروبا أبدية» لا يوجد فيها خاسر وفائز، ولا ظلام الهزيمة ولا بريق النصر.
«المحافظون الجدد» باتوا أول مَن أخذ من خلال الأيديولوجيا الليبرالية بداية نزع الشرعية عن قيادات أخرى في العالم، بمن فيها أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة. انتخاب باراك أوباما بدا كما لو أنه يشكل «الخلاص» الأخلاقي للدولة بانتخاب أمريكي من أصول إفريقية لكي يكون رئيساً للدولة، ومخلصاً لها من توسعاتها الدولية التي ظهر أنها تشكل خسائر فادحة، ولكن ما حدث في السياسة الأمريكية هو أن لون الرئيس بات قضية كان أول أبعادها ما إذا كان الرئيس قد وُلد في الولايات المتحدة أم لا، وهل جرى تزوير شهاداته الجامعية أم لا. أصبحت شرعية أوباما موضع المساءلة التي كان وراءها ليس مؤاخذة إدارية، وإما نظرة عنصرية سوف يكون لها ما بعدها عندما فاز دونالد ترامب على هيلاري كلينتون التي حصلت أيضاً على الأغلبية الشعبية، وخسرت أغلبية الولايات، بعد معركة انتخابية طاحنة تجاوزت فيها النخبة الأمريكية كل الأعراف الأخلاقية المتعلقة بسلوكيات الرئيس السابقة، وكل الأعراف والتقاليد مثل قيام المرشح بنشر أوراقه الضرائبية.
كان دونالد ترامب قنبلة مسمومة داخل النظام الأمريكي، وهي التي بدأت بالتشكيك في الكونجرس ووزارات الدفاع والمخابرات والخارجية والاقتصاد. لم يجد الرجل غضاضة في إقامة علاقات مشبوهة مع دولة أخرى خصم هي روسيا، وثبت أنها لعبت دوراً في انتخابه من خلال التلاعب بأهواء الناخبين في الولايات الحرجة لنتيجة الانتخابات.
كان ذلك هو مجرد البداية، فقد كان الرجل يعتقد أن المؤسسات الأمريكية باعت نفسها لنخبة أمريكية ليبرالية تابعة للحزب الديمقراطي؛ وهي نخبة لا تتمتع بأي قدر من الكفاءة، فقد خسرت كل الحروب التي تلت الحرب العالمية الثانية، ولم تفلح المخابرات في التنبؤ بأزمات مهمة. كانت طريقته في المناظرات داخل وخارج الحزب الجمهوري قائمة على البلطجة اللغوية، والتمتع بكسر كل التقاليد الرئاسية، ومعاداة الصحافة والإعلام، والسخرية من قادة الدول الأخرى. ولا أدرى ما إذا كان ذلك لحسن الحظ أم لا، أن ترامب تعرض لاختبارات كبيرة في سياساته تجسدت كلها في «جائحة كورونا» ففشل في إدارتها، ومعها خسر الانتخابات الرئاسية للديمقراطي جو بايدن.
ومن يوم إعلان نتيجة الانتخابات بهزيمة الساكن في البيت الأبيض، فإن ترامب لم يترك جهداً إلا وفعله من أجل ليس فقط العودة مرة أخرى إلى البيت الأبيض وإنما تدمير النظام السياسي الأمريكي كله بكسر قواعده الواحدة تلو الأخرى.
البداية كانت بالتشكيك في نتيجة الانتخابات والحديث بيقين عن تزويرها، وعندما بدأت عمليات فرز الأصوات في الولايات، فإنه لم يجد غضاضة في الضغط على المسؤولين عن فحص الأصوات وإعلان النتيجة، في سابقة تضع النظام الانتخابي كله موضع المساءلة عما إذا كان مناسباً وعادلاً وأن معاييره متطابقة في كل الولايات. هذه النقطة رغم أنها لم تؤدِّ إلى تغيير النتيجة، فإنها أبقت رواسب سوداء عما إذا كان المؤسِّسون الأوائل للدولة الأميركية قد أحكموا الأمور، أم أن الأمر فيه ثقوب كثيرة.
بعد فشل ترامب في تغيير نتيجة الانتخابات، فإنه تحول إلى التدخل في طرق التصديق على النتيجة التي جاءت من الولايات ثم التصديق النهائي في الكونجرس الأمريكي الذي أدى إلى ما بات معروفاً بأحداث 6 يناير، وهو الذي كان متوقعاً أن يقوده مايك بنس، نائبه، باعتبار نائب الرئيس المنوط به رئاسة مجلس الشيوخ، والصوت المرجح في حالة تعادل الأصوات في المجلس. كان ترامب قد أعد للأمر عدته، وهو أن يقوم نائبه برفض التصديق، وبعدها يطلب ترامب عرض الموضوع على المحكمة الدستورية العليا، وهناك كان الرئيس قد دبر اختيار قضاة المحكمة، بحيث يضمن أغلبية من أصواتها تناصره وتناصر مبادئه السياسية والاجتماعية. رفض بنس القيام بهذا الدور جعل ترامب يلقي بأوراقه الأخيرة، وهي حث الجماهير المحافظة التي تدفقت على واشنطن لكي تهاجم الكونجرس.
ما حدث بعد ذلك سوف يحتاج مقالاً مستقلّاً، ولكن الخاتمة هنا أن النظام الأمريكي تعرض للكثير من الاختبارات منذ بداية القرن، وأن الدور الذي قام به الرئيس ترامب منذ ترشحه للرئاسة عام 2015، وخلال وجوده في البيت الأبيض، أدى إلى الكثير من الهدم لنظام ظن صانعوه أنه ليس قابلاً للكسر.
{ كاتب ومفكر مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك