إذا كانت التكنولوجيا قد أضحت أحد أهم ركائز قوة وتقدم الدول في المجالات كافة، فإن توظيف التكنولوجيا في المجال العسكري يعد أهم تلك المجالات على الإطلاق لارتباط الأمر بالأمن القومي للدول، وتسارع وتيرة التنافس الدولي على امتلاك تلك التكنولوجيا لما لها من قيمة نوعية ومضافة في المجالات العسكرية، منها إعادة تشكيل قواعد الحرب وتغير مضامين التنسيق في العمليات العسكرية، وسرعة اتخاذ القرارات وتسريع وتيرة القتال، ورقمنة الاتصال بين القوات المسلحة في أرض المعركة.
وإذا كانت تلك هي المزايا الاستراتيجية التي تتيحها التكنولوجيا العسكرية فلا شك أنها أضحت هدفاً للدول كافة، حتى تلك التي ليس لديها قدرات مالية بالنظر إلى وجود نماذج للتكنولوجيا لا تحتاج إلى قدرات مالية كبيرة منها بعض الأجيال الأولية من الطائرات بدون طيار «الدرونز».
ومع التسليم بأن الهدف الاستراتيجي من توظيف التكنولوجيا في المجال العسكري هو الحفاظ على الأمن القومي بما يعنيه ذلك من أن تسارع وتيرة تطور تلك التكنولوجيا بشكل غير مسبوق قد أدى إلى تغير مفهوم التهديدات الأمنية فلم تعد التهديدات التقليدية هي الاهتمام الأكبر، بل إن مفهوم سيادة الدول قد أضحى يرتبط على نحو وثيق بقدرات الدولة في التكنولوجيا العسكرية، فإن دول الخليج تواجه تحدياً أكبر ربما مقارنة بغيرها من الدول لأسباب ثلاثة أولها: استخدام التكنولوجيا على نحو سيئ من خلال استهداف المنشآت المدنية في بعض دول الخليج خلال السنوات الماضية، وثانيها: تهديد الأمن البحري لدول الخليج العربي من خلال عمليات معقدة لم تكن التكنولوجيا بعيدة عنها، وثالثها: وقوع دول الخليج ضمن إطار إقليمي يشهد سباقاً نحو امتلاك التكنولوجيا العسكرية.
ويعني ما سبق أن هناك ضرورة استراتيجية لدول الخليج العربي لتوطين التكنولوجيا العسكرية في الخليج العربي، صحيح أنها ترتبط بمسألة التصنيع العسكري عموماً، بيد أن جوهر ذلك التصنيع هو مدى ما يتاح لدول الخليج من سبل للحصول على التكنولوجيا وإمكانية توطينها على المدى البعيد.
ومع حرص دول الخليج على بدء خطط للتصنيع العسكري من خلال شركات وهيئات وطنية في الدول الست منذ سنوات، بل إن بعض الدول جعلت توطين الصناعات العسكرية ضمن خطط التنمية المستدامة بما يعنيه ذلك من وجود مدى زمني محدد لتحقيق ذلك، فإن هناك ثلاثة تحديات تواجه دول الخليج العربي أولها: التغير السريع في أجيال التكنولوجيا ذاتها بما لا يتيح تخطيطاً بعيد المدى، وثانيها: احتكار التكنولوجيا من جانب شركات السلاح الكبرى ومعظمها في الدول الكبرى، وثالثها: مدى توافر الكوادر البشرية المتخصصة التي بإمكانها التعامل مع تلك التكنولوجيا والاستفادة منها.
ومع أهمية ما سبق، ولكن في تقديري أن هدف توطين الصناعات العسكرية عموماً والتكنولوجية منها على نحو خاص يرتبط بثلاث مراحل للتفكير، المرحلة الأولى: الجدوى الاقتصادية لتلك الصناعات، فلا شك أنها كغيرها من الصناعات الأخرى تستهدف بالإضافة إلى كونها صمام أمان لأمن الدول، أن تسهم بنصيب في الدخل القومي، ومن ثم ربما ترى بعض الدول أن كلفة شراء التكنولوجيا أقل من خطط توطينها، وبالتالي لا بد أن تكون هناك رؤى محددة بشأن تلك القناعة، وربما ترى بعض الدول الأخذ بالخيارين، الشراء والتوطين بشكل مرحلي، المرحلة الثانية: إذا ما قررت بعض الدول الخليجية العمل على هدف توطين التكنولوجيا العسكرية، فإن التساؤل حول أي من مستويات التصنيع يمكنها القيام به؟ حيث توجد مستويات ثلاثة كما تضمنتها العديد من الدراسات الغربية الأول: أن يكون البحث والإنتاج جميعه في دولة واحدة دون الحاجة إلى أي مستلزمات من الخارج وهو أمر لا يتوافر سوى للدول الكبرى أو بعض دول أوروبا الشرقية، والثاني: القدرة على إنتاج أبحاث دفاعية مبتكرة من شأنها أن تسهم في ابتكار أسلحة جديدة من الأسلحة الموجودة بالفعل، وهذا النمط غير متاح أيضاً سوى لدول محدودة منها دول حلف الناتو وتركيا والبرازيل، والثالث: وهو إمكانية قيام بعض الدول باستيراد مكونات التكنولوجيا وتجميعها ثم إعادة تصديرها اعتماداً على وجود أيدي عاملة رخيصة كما هو الحال في صناعة السيارات على سبيل المثال.
أما المرحلة الثالثة من التفكير: فهي بافتراض أن الدول حسمت الأمر وقررت الأخذ بأي من النماذج السابقة للتصنيع فما هي التحديات التي يمكن أن تواجهها؟ في تقديري أن أساس توطين التكنولوجيا العسكرية يتمثل في أسس ثلاثة مترابطة وهي التعليم والتشريع والتمويل، فبدون كوادر محلية متخصصة لا سبيل للحديث عن توطين التكنولوجيا على المدى البعيد، ولا أعني بذلك المؤسسات التعليمية المعنية بالتكنولوجيا فحسب وإنما المنح التعليمية للخارج في مجالي الهندسة والرياضيات، فضلاً عن أهمية الأطر التشريعية التي تتضمن ضوابط بشأن أطراف التصنيع العسكري ومتطلباته وأهدافه على المديين القريب والبعيد، بالإضافة إلى مسألة التمويل، صحيح أن العديد من الدول ومن بينها دول الخليج العربي تخصص ميزانيات لهذا الغرض ولكن يظل دور القطاع الخاص محورياً في عملية التمويل.
ومع التسليم بقناعة الدول وقدرتها على توفير متطلبات توطين تلك الصناعات، فإن هناك ثلاث قضايا أخرى يتعين أن تكون محل اهتمام، الأولى: كيف يمكن أن تصبح المنتجات العسكرية ذات قدرة على المنافسة في الأسواق العالمية مع نظيرتها من منتجات الدول الأخرى؟ والثانية: كيف يمكن الحصول على التكنولوجيا في المراحل الأولى للإنتاج بشكل مستمر من دون انقطاع إلى أن تتم عملية التوطين على المدى البعيد؟ وذلك في ظل قيود منها لوائح التصدير في الدول الكبرى وارتباط تصدير تلك التكنولوجيا بمسار العلاقات السياسية بين الدول، والثالثة: كيف يمكن إيجاد إطار تكاملي اعتماداً على العوامل الجغرافية أو المؤسسية، بمعنى آخر أن الصناعات العسكرية وفي بؤرتها التكنولوجيا كغيرها من الصناعات بها مزايا نسبية يمكن أن تقدمها كل دولة، ومن ثم فإن التكامل وليس التنافس في تلك الصناعات يصبح متطلباً أساسياً بل إن حاصل جهود الدول المتجاورة التي تربطها مصالح متنوعة ومصير واحد في مجال التصنيع العسكري يعد أمراً ملحاً وضرورياً.
إن الاهتمام بتوظيف التكنولوجيا في المجال العسكري لم يقتصر على خطط الدول فحسب، بل توازى معه اهتمام أكاديمي ملحوظ، ففي نهاية عام 2021 صدر «جيش بلا آمر: الأسلحة المسيرة ذاتياً ومستقبل الحرب» لمؤلفه بول شار، ما أثار الجدل ليس فقط حول مدى تأثير التكنولوجيا على طبيعة العمليات العسكرية، بل أطراف الصراعات الإقليمية وقدراتهم من بينهم الجماعات دون الدول التي أضحت رقماً صعباً في تلك الصراعات، وكذلك الجدل حول مضامين بعض نظريات العلاقات الدولية بشأن مؤشرات قوة الدول، ومضامين سيادة الدول والقدرة على حمايتها في ظل سطوة التكنولوجيا الحديثة.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك