كان لاتفاق باريس للمناخ عام 2015 الذي أبرم في مؤتمر المناخ 21 COP دور كبير في تحفيز التوجه نحو تنويع مصادر الطاقة واعتماد الطاقات المتجددة كركيزة أساسية في دول العالم عامة والدول العربية ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية خاصة. إذ أوجد هذا الاتفاق الذي انضمت إليه كل دول المجلس وصادقت عليه، وبشكل لم تعتده هذه الدول عند انضمامها إلى اتفاقيات دولية بيئية مماثلة، المبرر والسند لحكوماتها لتسريع الاستثمار في مجال الطاقات المتجددة (طاقة الرياح، طاقة الشمس، طاقة المياه، الطاقة الجوفية) والبديلة ( الطاقة الحيوية، الطاقة النووية) الذي كان موصداً برغم الإلحاح الدولي بُعيد مؤتمر المناخ COP 15 الذي عقد بمملكة الدنمارك عام 2009، والذي حث الدول على تبني سياسات تنموية محفزة ومستقطبة للاستثمار في قطاع الطاقة المتجددة، وتنويع مزيج الطاقة بعيداً عن الطاقة الاحفورية في جميع الدول وبالأخص الدول النامية. ويعد اتفاق باريس الذي تبنته 197 دولة ودخل حيز التنفيذ بعد أقل من عام من إعلانه، ضرورياً لتحقيق أهداف التنمية المستدامة كونه يوفر خارطة طريق للإجراءات المناخية التي من شأنها تقليل الانبعاثات وبناء القدرة على الصمود مع تغير المناخ.
تشير الدراسات والقياسات إلى أن درجة حرارة كوكب الأرض قد ارتفعت حالياً بمقدار 1.1 درجة مئوية عن مستويات ما قبل الثورة الصناعية، وكي لا نصل إلى وضع كارثي ترتفع فيه درجات الحرارة إلى نحو ثلاث أو أربع درجات مئوية بحسب ما تشير إليه الدراسات المتخصصة، لا بد من كبح ارتفاع درجة الحرارة العالمية عند 1.5 درجة مئوية فقط. لذا، فإن اتفاق باريس يهدف إلى تكثيف الجهود العالمية للحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية بحيث لا تتجاوز 1.5 درجة مئوية، ويمكن تحقيق ذلك بخفض 50% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري أو الغازات الدفيئة حتى عام 2030، وصولا إلى صفر انبعاثات عام 2050.
تقدر مساهمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية من مجمل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المكافئ CO2eq في عام 2020 بحوالي 1.1 مليار طن؛ ما يعادل حوالي 3% من الإجمالي العالمي للانبعاثات. فيما تبلغ حصة دول المجلس من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التراكمية العالمية أقل من 2% مع تباين بين هذه الدول في كمية تلك الانبعاثات. إلا أن ما يؤخذ على دول المجلس هو ارتفاع نصيب الفرد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون فيها. ويتعدى نصيب الفرد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المكافئ في دول المجلس المتوسط العالمي البالغ 4.47 أطنان للفرد. وتسهم الظروف المناخية القاسية في دول المجلس ومحطات تحلية مياه البحر والنمو الاقتصادي في ارتفاع معدل استهلاك الطاقة وبالتالي ارتفاع نصيب الفرد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون فيها، ويعتبر قطاع إنتاج الكهرباء وقطاع النقل من أهم مصادر تلك الانبعاثات في دول مجلس التعاون.
بُعيد اتفاق باريس سارعت دول الخليج إلى إعلان مشاريعها في مجالات الطاقات المتجددة والبديلة، كما انتهجت سياسات تنموية خضراء ضمن خططها الوطنية لخفض انبعاثاتها، وتغيير نمط الاستهلاك من الطاقة الأحفورية التقليدية في بعض القطاعات الأكثر استهلاكاً للطاقة، وتبني تنمية منخفضة الكربون أو منخفضة الانبعاثات، حيث أعلنت كل من السعودية والبحرين في مؤتمر تغير المناخ COP 26 الذي عقد في المملكة المتحدة عام 2021 تبنيهما لنهج صفر انبعاثات حتى عام 2060، في حين أعلنت الإمارات الوصول إلى الحياد الصفري في عام 2050. كما أعلنت سلطنة عمان نهاية عام 2022 خطتها لصفر انبعاثات حتى عام 2050. ومن المعلوم أن الوصول إلى الحياد الصفري أو الحياد الكربوني يتطلب تغييراً جذرياً في منهجيات التنمية الاقتصادية للدول، ووضع خارطة طريق واضحة الأهداف والمستهدفات لإنفاذ تلك الغاية المنشودة.
تعد المساهمات الوطنية المحددة NDCs التي أقرها اتفاق باريس وقدمتها كل دول العالم تقريباً في عام 2015 هي الالتزام الوطني لتحقيق أهداف اتفاق باريس على أن يتم تحديثها كل خمس سنوات، وفيها تستعرض كل دولة خططها وبرامجها لتخفيف انبعاثاتها من الغازات الدفيئة وإجراءاتها للتكيف مع قضية تغير المناخ (تتوافر تقارير المساهمات المحددة وطنيا لكل دول العالم على موقع اتفاقية تغير المناخ). ولقد قدمت كل دول المجلس مساهماتها الوطنية في عام 2016 وكذلك حدثتها عام 2021. وتتشابه الخطوط العامة للخطط المدرجة في تقارير المساهمات الوطنية بين دول المجلس في تركيزها بشكل رئيسي على تنويع مزيج الطاقة بالاعتماد على الطاقات المتجددة وتحديداً طاقتي الشمس والرياح في إنتاج الكهرباء وتحلية المياه وفي رفع كفاءة الطاقة، وتعظيم الاستفادة من الموارد المتوافرة والمتاحة ما أمكن (تحويل النفايات إلى طاقة/ الطاقة الحيوية....إلخ)، كما أدرجت مؤخراً كلاً من الهيدروجين الأخضر والأمونيا الزرقاء ضمن الوقود النظيف المستدام، فضلاً عن التوجه العام إلى زيادة الرقعة الخضراء والتشجير، وتبني نهج الاقتصاد الدائري بصفة عامة ونهج الاقتصاد الدائري للكربون بصفة خاصة. وتتصدر دولة الإمارات العربية المتحدة دول المجلس في تدشينها لمشاريع الطاقة المتجددة، حيث وضعت هدفها بزيادة حصتها من الطاقة النظيفة، بما يضم مصادر الطاقة المتجددة والنووية إلى 50% من مزيج الطاقة المحلي بحلول عام 2050، وترشيد مستويات الاستهلاك العام للطاقة بنسبة 40% مقارنة بالوضع الاعتيادي بحلول العام ذاته.
على غرار تلك التوجهات، تضمن تقرير المساهمات الوطنية المحددة لمملكة البحرين لعام 2021 هدفاً مباشراً ومحدداً للطاقة المتجددة بالوصول إلى 20% من إجمالي الطاقة بحلول عام 2035، وبخفض للانبعاثات بنسبة 30% بحلول عام 2035 مقارنة بخط الأساس لعام 2015م.
وأدرج تقرير خطط المساهمة الوطنية لدولة الكويت الطاقة المتجددة كأحد الدعائم لمنهجية خفض الانبعاثات فيها، وسبق أن أعلنت دولة الكويت تأمين نسبة 15% من الطلب المحلي على الكهرباء باستخدام الطاقة المتجددة بحلول عام 2030. فيما تعتزم دولة قطر خفض انبعاثاتها من غازات الدفيئة بحوالي 25% بحلول عام 2030، وتوليد 20% من الكهرباء من مصادر متجددة بحلول عام 2030 بالتركيز على الطاقة الشمسية وتحويل النفايات إلى طاقة.
أما سلطنة عمان فقد تبنت خفضاً من الانبعاثات بنسبة 7% بسيناريو نمط العمل المعتاد للعام 2030. واعتمدت استراتيجيتها الوطنية للطاقة هدفًا طموحًا لتوليد 20% من الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2027، وحوالي 39% بحلول عام 2040.
وتنخرط المملكة العربية السعودية بشكل واسع وبجهد ملحوظ في تنفيذ العديد من الإجراءات والخطط سعياً وراء خفض انبعاثاتها من غازات الدفيئة منذ أن أقرت رؤيتها الوطنية 2030، حيث أطلقت المملكة العديد من مشاريع الطاقة المتجددة على نطاق واسع على أراضيها، ومن المتوقع أن تحقق هذه المشاريع الهدف المعلن بتوليد 50% من طاقة المملكة من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2030.
ويدل ما تم استعراضه على الجهود الكبيرة التي تبذلها الحكومات في دول المجلس للتصدي لتغير المناخ وخفض الانبعاثات وتحقيق متطلبات اتفاق باريس واتفاقية تغير المناخ، لكن يبقى أن نذكر أن لتنفيذ اتفاق باريس انعكاسات إيجابية وأخرى سلبية ربما ستطول اقتصادات دول المجلس وتؤثر عليها، كما أن الاستثمارات المطردة في مجالات الطاقة المتجددة تتطلب توفير البنى التحتية والإجراءات التشريعية والبنيوية وغيرها لتحقيق الاستفادة المرجوة، كما تتطلب إتاحة الوقت الكافي للاستيعاب والتمكن من تحقيق التغير المجتمعي المطلوب لإنجاحها. فما هي تلك الآثار وما هي تلك المتطلبات المطلوبة لنجاح استثمارات الطاقة المتجددة في دول المجلس للحديث بقية.
{ خبير في شؤون البيئة وتغير المناخ
suzanalajjawi@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك