يروي جدي في أوراقه الصفراء هذه الحكاية.. فيقول:
إنه كان هناك حقل جميل فيه وفرة من الغذاء، وخاصة في فصل الربيع والصيف والخريف، إلا أن هذه الوفرة تختفي أو تكاد تختفي في فصل الشتاء، لذلك كانت أسراب النمل تخرج من مساكنها خلال فصول السنة ذات الوفرة الغذائية لتجمع ما يمكن أن تجمعه من الغذاء وتخزنه لفصل الشتاء.
كانت أسراب النمل تخرج قبيل إشراقة أضواء الشمس، وتعمل بكل جهد واجتهاد، ومن غير ملل وكلل، وكانت تلتقط الحبوب من هنا وهناك، وتصعد جذوع الأشجار وتقطع من أوراقها، وتنقل كل ما تلتقطه في الحقل إلى مساكنها بعد أن يتم تقطيعه بأحجام مناسبة لتخزنه في غرف خاصة.
وتستمر رحلتها طوال النهار، وفي المساء تعود إلى مسكنها لتستريح، وتستعيد طاقاتها، حتى تعاود عملها في اليوم الثاني.
لاحظ ذلك واحد من صراصير الحقل الذي كان يعيش بالقرب من مسكن النمل، فكان يشاهد تلك الأسراب من النمل وهي تعمل بكل جهد واجتهاد طوال النهار، ولا تأكل إلا القليل من الطعام أو مما تجمع خلال فترات العمل، لكنها تعمل باجتهاد من غير أن يكون عليها رقيب. وقف الصرصور يراقب فترة طويلة وفي الأخير قرر أن يوقف واحدة من النملات ويحاورها ويسألها عن كل هذا الجهد والتعب.
وبالفعل في ذات صباح، وقف الصرصور في طريق سرب النمل الذاهب إلى الحقل، واعترض السرب وقال لهم: أريد أن تخرج واحدة منكم وتقول لي ما كل هذا الذي تفعلون؟ ولماذا تفعلون ذلك؟
فخرجت واحدة من النمل وقالت: نحن مجتمع النمل، نعمل هكذا بنظام وانتظام، وبرامج عمل يومية حتى عندما يأتي الشتاء نستقر في مساكننا ونرتاح ونأكل مما تم تجميعه طوال شهور السنة.
لم يقتنع الصرصور من هذا الكلام، فقال للنملة: إني لا أفهم هذا الكلام، ولكن أريد أن أشاهد بنفسي حقيقة ما تقولين.
ففكرت النملة قليلاً، ثم قالت: تعال معي.
فذهب الصرصور مع النمل حتى بلغا قرية النمل، وقبل أن تطأ أرجل الصرصور أرض القرية، قالت النملة: انتظر هنا حتى أعود إليك.
غادرت النملة وذهبت إلى ملكة النمل وشرحت لها كل تفاصيل الموضوع، وطلبت منها أن تسمح للصرصور بدخول مساكن النمل حتى يشاهد كل ما يرغب بأم عينيه، فوافقت ملكة النمل على ذلك، ثم قامت وسلمت النملة شرابا لذيذا من أجل تصغير حجم الصرصور حتى يتمكن من الدخول إلى مسكن النمل، لأن حجم الصرصور كبير بالنسبة إلى المسكن.
فدخل الصرصور مع النملة، فقالت النملة: يتراوح عدد الأفراد في مجتمع النمل بين 30 و80 ألف نسمة، وربما يزيدون في بعض الأحيان، حيث يمكن أن نبلغ حوالي 100 ألف نسمة.
الصرصور: يا إلهي، إن هذا العدد كبير.
النملة: بالطبع، لذلك تصبح عملية النظام واختيار السكن ونظافته والاهتمام به قضية من الأولويات الضرورية التي لا غنى عنها، هذا طبعًا بالإضافة إلى توفير الغذاء والاهتمام بالصغار.
الصرصور: إنها أعمال كثيرة.
النملة: من أجل أن ينعم أفراد المجتمع بالأمن والاستقرار.
التفت الصرصور إلى مجموعة من النمل يقومون برص بعض المواد الطينية فوق بعضها البعض فيكونون الغرف والحجرات، فقال الصرصور: رائع، حقيقة عمل جميل ومذهل. ثم التفت الصرصور إلى الجهة الأخرى فوجد عددا من النمل يقومون بجمع المخلفات المتساقطة من عمليات البناء.
فقالت النملة: هذه المجموعة من الشغالات مسؤوليتهن ترك المسكن نظيفاً دائمًا، فعملهن رفع البقايا والمخلفات الأخرى أيًا كانت.
وسار الصرصور مع النملة، وشاهد من تحته ومن فوقه أسرابا كبيرة من النمل، كل فرد من المسكن يقوم بعمله بصورة منضبطة وبطريقة سلسة ومن غير أي مشاكل، فلا يتزاحمون على مكان ولا يأخذ أحد دور أحد، وإنما كل يعمل بحسب أنظمة ثابتة وكأنها راسخة من عشرات القرون، استغرب الصرصور من طريقة العمل تلك، والتفت إلى النملة وقال لها: إنكم مجتمع مذهل، فكيف تستطيعون القيام بكل هذا التنظيم وهذا الانضباط؟
ابتسمت النملة وقالت: يمكنك أن تسأل الملكة عن ذلك، فهي الوحيدة التي يمكنها أن تجيب.
فطلب الصرصور زيارة ملكة النمل، فذهبا، وعندما جلس الصرصور مع الملكة وطرح السؤال ذاته فقالت الملكة: حسنا، إن ذلك يتم بفضل عوامل كثيرة أهمها، وجود مسارات واضحة ومحددة لتدفق المعلومات التي تتم بطريقة تلقائية من دون أوامر نظمها تبارك وتعالى، فتقوم أفراد من الشغالات بتوفير معلومات عن البيئة المحيطة، مثل نوعية الغذاء وما شابه ذلك، فتنقلها من خلال شفرة خاصة، فمن خلال هذه الشفرات تنتقل المعلومات إلى بقية أفراد المسكن الذين يقومون بدورهم بتفسير هذه الشفرات إلى عمل، عندئذ يقوم كل فرد بالدور المنوط به من غير كلل ولا ملل ولا تذمر.
تواصل الملكة وتقول: نحن نجمع الغذاء في زمن الوفرة، ونخزنه بطريقة منهجية، وعندما يأتي الشتاء فإننا لا نعمل وإنما نستريح ونتغذى من المخزون الموجود لدينا والذي تم جمعه طوال السنة، وأيضًا استهلاك الغذاء يكون بطريقة منهجية مخططة ولا عشوائية فيها، ولا يأكل أحد من نصيب أحد.
خرج الصرصور من مسكن النمل وقال في نفسه: إنه شيء خارق للعادة، كل شيء منظم ومخطط له ومرتب، والكل يعمل بنظام وترتيب، فلا تصادمات ولا عشوائية، المسكن كله منظم، وخاصة عندما أقارن كل هذا النظام وهذا الترتيب والتخطيط مع مجتمع الصراصير، الذين يعيشون من غير تخطيط ولا نظام ولا ترتيب، وفي الحقيقة فإنه أصلاً لا يوجد مجتمع.
يقول جدي معقبًا على هذه الحكاية: إن المجتمعات – أو المؤسسات – لا يمكنها أن تبلغ الرقي والتطور إلا من خلال التنظيم والتخطيط، أما العشوائيات فإنها لا يمكن أن تبني حضارة.
وربما يكون كلام جدي صحيحًا، فالمجتمعات العشوائية تنتشر في الكثير من بقاع العالم وفي المدن وعدد من الدول، وخاصة في المناطق التي لا تتوافر فيها الضروريات الأساسية للحياة، وتعج بالازدحام المروري والكثافة السكانية غير المدروسة، وظروف العيش غير الصحية، وخاصة عندما تتداخل مناطق ورش العمل بالسكن والحياة، وعندما تفتح ورش العمل الخاصة بتصليح السيارات التي تستخدم بعض المواد الكيميائية لتصليح وتنظيف السيارات بالقرب من المساكن والمطاعم، كل هذه تُعد بحسب الأنظمة العالمية مدنا عشوائية لم يتم التخطيط لها لذلك فهي ليست مدنا صحية، وبالتالي قد تغدو في يوم ما غير مؤهلة للحياة.
أما المؤسسات العشوائية، فحدث ولا حرج. فقد وجدنا أن عددًا من المؤسسات تفتقر إلى أبجديات التنظيم الداخلي للعمل، فتجد إدارات بأكملها تعمل بعشوائية فجة تنعكس سلبًا على جميع أنشطة تلك المؤسسة.
قال ذات مرة صديق، وهو خبير ومستشار إداري في واحدة من الدول: «من وجهة نظري البداية دائمًا تبدأ من الإدارة العليا، فعشوائية الفكر يتبعها عشوائية القرارات، ومن ثم عشوائية الاختيار، ثم عشوائية التنظيم، والتي يتم ترجمتها بعشوائية في الإدارة». ثم يواصل ويقول: «إن العشوائية مرض معدٍ وأضراره شديدة وتزيد يومًا بعد يوم حتى لو كان العمل مستمرا والإنتاج موجودا».
لقد وجدنا أن العشوائية والابتعاد عن التخطيط المنهجي يقودان بصورة تلقائية إلى تخطيط سيئ ناتج من تفكير غير منظم، وطالما كان هناك تخطيط سيئ فلا بد أن تجد قرارات متخبطة، وغير مدروسة، وكثير من تلك المؤسسات تعمل بنظام الفرد، فهو الذي يفكر، وهو الذي يتخذ القرارات مهما كان حجمها، ووجدنا أن كل المحيطين بمتخذ تلك القرارات يصفق ويطبل بغض النظر عن جودة تلك القرارات، ونجد كذلك أن تلك المؤسسات لا تعمل على وتيرة واحدة، ولا تخدم هدفا واحدا، وبالتالي فإنها تعمل وفق سلسلة من العمليات تنتهي بمخرجات ذات جودة سيئة أو بجودة قليلة على أحسن تقدير. وقد يقول قائل إننا نجد العديد من النتائج التي تصدر عن تلك المؤسسات، فكيف ذلك؟
هذا صحيح، فإن مثل هذه المؤسسات –حتمًا– تعطي نتائج، ولكن إن تلك النتائج عادة ما تكون في مرحلة أولية ولن تستمر طويلاً، بل هي درجات سلم يهبط للأسفل فستجد النتائج تقل والكفاءات تهرب، وذلك بسبب أن الأمور في مثل تلك المؤسسات ستتحول من السعي لإتمام الأهداف إلى السعي للتنصل من الأخطاء والأهداف، فهذا يرمي التهمة على هذا، وهذا يلقي باللوم على الآخرين، والنتيجة معروفة بيئة عمل سيئة، مؤسسة عشوائية.
ومن خلال حواراتنا في المؤتمرات والدورات مع العديد من المفكرين من الدول العربية، وجدنا أن كثيرا من المؤسسات العربية تفتقر إلى التنظيم والتخطيط البعيد المدى، فجل تلك المؤسسات تفكر في الإنجاز والربح السريع، بغض النظر عما سيحدث في الغد القريب أو حتى البعيد، فعدد من المؤسسات العربية يتحدثون عن التنمية المستدامة في العمل المؤسسي، إلا أنهم للأسف لا يحققون ذلك على أرض الواقع، لذلك فإنهم يستمرون بعض الوقت من عمر الزمن، ولكن حتمًا سيأتي ذلك اليوم الذي فيه سيتوقفون.
فهل نحن نسير وفق مجتمع النمل أم وفق حياة الصراصير؟
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك