تمثل سورة الكهف مجموعة قصصية قصيرة، منها: قصة أهل الكهف الذين ضرب الله (تعالى) على آذانهم في الكهف سنين عددا، ومنها قصة صاحب الجنتين، ومنها قصة العبد الصالح، وما تحمله من عجائب، ومنها قصة الملك الصالح الذي طوف بالمشارق والمغارب، وأظهر الله تعالى على يديه معالم العدل والرحمة، ثم نجد في السورة قصة أهل الكهف التي اشتهرت السورة باسمهم، وشاع ذكرها في العالمين بما تضمنته من معجزات، ومن أجوبة شافية على أحداث تبدو للوهلة الأولى وقبل التدبر أنها مخالفة للمنطق، والعقل الراشد.
لقد تضمنت قصة العبد الصالح، ونبي الله موسى (عليه الصلاة والسلام) وهي ثلاث أقصوصات: قصة أصحاب السفينة، وقصة الغلام المقتول من دون جناية ظاهرة أو معلومة، وقصة الجدار المتداعي الذي أعاد العبد الصالح مع نبي الله موسى بناءه من غير أن يكلفهم أحد بذلك.
والقصص أو الأقصوصات الثلاث التي نزل الوحي المبارك بها في سورة الكهف على رسول الله محمد(صلى الله عليه وسلم)، وجميعها -أي الأقصوصات الثلاث- هي جزء من كل، وهي تمثل بعض معالم القصص القرآني إلا أنها تشير إلى عظمة البيان القرآني، وتؤكد أن الله تعالى يقص القصص الحق، وهو سبحانه أصدق القائلين، ومن أصدق من الله حديثا، يقول سبحانه وتعالى: «نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى(13) وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلهًا لقد قلنا إذًا شططا(14)» سورة الكهف.
لقد استبان في السورة المباركة بعض تجليات الأسماء والصفات، وأوضح هذه الأسماء هو «الحكيم» حيث تعانقت الأحداث في السورة، سواء قصة أهل الكهف، أو قصة صاحب الجنتين، أو قصة العبد الصالح، وما تفرع عنها من أقصوصات، أو قصة الملك الصالح (ذو القرنين) الذي تولى مهام عظيمة من إقامة العدل، وإرساء معالم الرحمة، والضرب على أيدي الجناة بأيد من حديد.
لقد تجلى اسم الله الحكيم، واسمه (سبحانه) الرحمن، وخاصة في الأقصوصات الثلاث اللاتي تفرعن عن قصة العبد الصالح مع نبي الله موسى (عليه الصلاة والسلام) الذي وهبه الله تعالى علمًا لَدُّنيا استأثر به دون نبيه موسى رغم أن نبي الله موسى من أولي العزم من الرسل، وهؤلاء الرسل هم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد (عليهم من الله تعالى أزكى سلام وأعطر تحية) ومع كون نبي الله موسى (عليه الصلاة والسلام) من أولي العزم من الرسل إلا أن علم العبد الصالح فاق علم نبي الله موسى، لأنه تميز عن المعارف البشرية، وأنه ليس علمًا مكتسبًا، بل هو من عند الله تعالى، قال سبحانه وتعالى: «فوجدنا عبدًا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لَدُنَّا علما» سورة الكهف/ 65.
الحق سبحانه وتعالى يؤكد أن العلم الذي أظهره الله تعالى على يد العبد الصالح ليس من كسبه هو، وليس مما يتم تحصيله على يد عالم أو معلم، بل هو من عند الله سبحانه، وهو عطاء رباني لم يشرك نبيه موسى فيه، وهو من أولي العزم من الرسل الذين اختصهم الله تعالى بمنزلة لم يبلغها الرسل الآخرون عليهم جميعًا صلوات من ربهم ورحمة.
واسم الرحمن -وهو من أسماء الله الحسنى- عند تدبر معناه سوف يظهر الله تعالى على يد العبد الصالح بعض تجلياته وهي: أن خرق السفينة كان أولى وأنفع لأصحابها من أن تظل بلا خرق، وأن قتل الغلام فيه رحمة له ولوالديه المُؤْمِنَين، وأن في إقامة الجدار المتداعي أكبر ضمان لحماية كنز الغلامين حتى يكبرا ويستخرجا كنزهما، وختم العبد الصالح الحكمة فيما قام به من أعمال يبدو عليها مخالفتها للمنطق وللعقل الراشد، فقال: «أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا(79) وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانًا وكفرا(80) فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرًا منه زكاة وأقرب رحما(81) وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحًا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا (82)» سورة الكهف.
عند التدبر والاعتبار يتجلى لنا عطاء أسماء الله تعالى وصفاته ليبدو من خلالها عظمة العطاء، وجزيل الصبر على البلاء، وصدق الله العظيم: «كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون» البقرة / 216.
لقد اقترن اسم الله «الرحمن» باسمه «العليم» لأن هناك ضرورة ماسة وأكيدة لهذا الاقتران لأن الأفعال التي قام بها العبد الصالح هي صادمة للمنطق وللعقل الراشد، ولهذا قدم الحق سبحانه الرحمة قبل العلم، قال تعالى: «فوجدا عبدًا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علمًا» الكهف / 65.
ولنتأمل ونتدبر تقديم الحق سبحانه وتعالى الرحمة على العلم، لأن هناك أسباباً لذلك سوف يتلبس بها العبد الصالح وتكون الرحمة من مبرراتها، إضافة إلى ذلك أن النص الواضح والجلي أن الرحمة والعلم لم ينالها العبد الصالح من خلال وساطة بشرية يجوز عليها النقص والزيادة أي أنهما أعني الرحمة والعلم ثابتتان لا يلحقهما التبدل والتغير لأنهما عطاء إلهي يكاد يكون مباشرًا.
لقد تجلت في هذه القصص الثلاث أنه في كل واحدة منهما هناك موقفان، الأول موقف العبد والثاني موقف الحق سبحانه وتعالى، والعباد في حياتهم الدنيا بين هذين الخيارين، فإما أن يؤمن العبد بحكمة الرحيم، الحكيم، العليم من دون أن ينتظر ظهور الحكمة المؤيدة لأحد هذين الخيارين ويكون عندها قد آمن بالحكمة ولَم يؤمن بالحكيم سبحانه. ومن تجليات أسماء الله الحسنى، وصفاته العلا أن أصحاب السفينة لو أصروا على موقفهم لخسروا السفينة وهي مصدر رزقهم الوحيد، وأن الوالدين المُؤْمِنَينْ لو آثرا بقاء ولدهما حيًا حياة موقوتة لفقدوا ما أعد الله تعالى لهما وللغلام من خير مكنون، وأن الغلامين اليتيمين لو اعترضا على إقامة الجدار المتداعي لخسرا كنزهما المخبوء.
وبعد، فهذه هي سورة الكهف وبعض ما جاء فيها من عطاء غير ممنوع ولا مقطوع، فإن شئت فأقدم، وإن شئت فأحجم!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك