بعد عام ونصف على اندلاع الأعمال العدائية يبدو أن الصراع لم يقترب من نهايته، سواءٌ بانتصار عسكري لأحد الأطراف، أو بتسوية سياسية للتوصل، أو اتفاقًا لوقف إطلاق النار أو الهدنة، على الرغم من تحقيق بعض النجاحات الدبلوماسية المهمة خلال الحرب، مثل تنفيذ صفقة لتسهيل صادرات الحبوب من البحر الأسود، والعديد من صفقات تبادل الأسرى، إلا أنها تعثرت وسط التوترات المتفاقمة بين القوات العسكرية الروسية والأوكرانية، مع انسحاب موسكو بشكل كبير من اتفاق الحبوب السابق في منتصف يوليو 2023.
في ما وصفها السير «لورانس فريدمان» من «كينجز كوليدج» بأنها «حرب تحمل»، لم يثبت أيٍ من البلدين قدرته على الحسم، بل أن إخفاقات روسيا في الحرب موثقة في التحليلات الغربية، فقد أشار «بول شوارتز» من «برنامج روسيا وأوراسيا» إلى أن جيش «بوتين» كان ضعيف الأداء بشكل ملحوظ وتكبد خسائر فادحة، بالإضافة إلى ما أفاده «جوليان بورجر» من «الجارديان» أن؛ الآمال الغربية في تحقيق اختراق سريع لهجوم كييف المضاد في صيف 2023 أثبتت أنها «مفرطة في التفاؤل».
إن إقرار «هذا الواقع» الذي يفيد بأن؛ تزويد أوكرانيا بالتمويل الغربي والأسلحة لم يسرع من إنهاء الحرب، بل أدى إلى عودة الجهود الدبلوماسية المنسقة، القائمة على إدراك منطق مفاده أن؛ «إنهاء الحرب في أوكرانيا سوف يستلزم بالتأكيد بعض المساومة» و«يترك وضعًا يمثل حلًا وسطًا بين مصالح البلدين»، بحسب «بول بيلار» من معهد «كوينسي».
تقود المبادرات الدبلوماسية الغربية الفاشلة في منع ثم احتواء تجاوزات الحرب إلى ضرورة توخي الحذر، وعليه ظهرت سلسلة من المبادرات الدبلوماسية في الأشهر الأخيرة من قبل دول غير غربية تعطي الأمل في أن تمارس دورها كوسيط -أو كوسطاء مختارين من جميع أنحاء العالم- بما يمكن أن يساعد في التوصل إلى حل سياسي يسمح بوقف أعمال القتال المسلحة.
وبالإضافة إلى سلسلة من خطط السلام التي كانت قد اقترحتها الصين وإندونيسيا ودول أفريقية، في أوائل أغسطس 2023، استضافت السعودية اجتماعًا لممثلي 40 دولة لمناقشة أفضل السبل لدفع قدمًا بالمساعي الدبلوماسية، والتي شملت محادثات حول خطة الحكومة الأوكرانية الخاصة بشروط السلام المكونة من 10 نقاط.
وامتدادًا للجهود الدبلوماسية السابقة، يُعد اجتماع كبار المسؤولين من دول مثل الولايات المتحدة والصين والهند والبرازيل، بالإضافة إلى ممثلين من الاتحاد الأوروبي، في جدة، خطوة مهمة إلى الأمام في الإجماع الدولي على الحاجة إلى استتباب السلام في أوكرانيا.
وبعد اجتماع الدول في كوبنهاجن في أواخر يونيو، والذي قال عنه «إليس جيفوري» من «ميدل إيست آي» أنه فشل في تحقيق أي نتائج ملحوظة، سهلت الروابط الجيوسياسية السعودية حضور المزيد من البلدان من الجنوب العالمي لجدة؛ حيث وصفته «ليزا أوكارول» من «الجارديان» بأنه الجائزة الدبلوماسية الكبرى لهذا الاجتماع هو المشاركة الصينية، حيث ذهبت بكين على النحو الواجب إلى أبعد مما ذهبت إليه من قبل بدعمها الصريح لمزيد من محادثات السلام بين كييف وموسكو.
وسلط المحللون الغربيون الضوء على أن هذا الاجتماع قد أكد على النفوذ الدبلوماسي المتزايد للمملكة، وأهميتها بالنسبة للمبادرات الهادفة، إلى الحد من التوترات على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وفي هذا الصدد، أشار كل من «مارك سانتورا» و«فيفيان نيريم» و«ديفيد بيرسون» من «نيويورك تايمز» إلى؛ أن الرياض أصبح لها دور بارز في أزمة ذات أولوية عالمية قصوى»، ومن جانبه أوضح «جيفوري» أن محادثات جدة تبرز استراتيجيتها العالمية لتصبح قوة دبلوماسية وجيوسياسية رئيسية، خارج منطقة الشرق الأوسط.
وبعيدًا عن الغرب، أصبحت العديد من السبل للعمل الدبلوماسي أكثر وضوحًا في الأشهر الأخيرة، فعلى سبيل المثال، خلال صيف 2023، قام القادة الأفارقة بقيادة «سيريل رامافوزا» بزيارة كل من أوكرانيا وروسيا، مع خطة سلام مكونة من 10 نقاط تقترح «سلسلة من الخطوات المحتملة لنزع فتيل الحرب»، بما في ذلك انسحاب روسي تدريجي، وتعليق مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ضد «بوتين» بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وذلك وفقًا لما ذكره «أوليف إنوكيدو-لينهام» من «سكاي نيوز».
وعلى الرغم من أن «نوسموت جباداموسى» من «فورين بوليسي» قد أشارت أن هذه المهمة الدبلوماسية قوبلت برفض صارم من كِلا الجانبين، إلا أن هذه الجهود تظهِر أن هناك رغبة مشتركة من قِبل العديد من البلدان للتوصل إلى تسوية لإنهاء حرب تسببت في حدوث حرب عالمية هائلة، وحالة من انعدام الأمن الاقتصادي.
وبالمثل، عرضت الصين خطتها الخاصة لإنهاء الحرب، فأكدت وزارة الخارجية الصينية على التزامها بالعمل الدبلوماسي لإنهاء الحرب، وإصرارها على كون «الحوار والتفاوض هما الحل الوحيد القابل للتعامل مع الأزمة الأوكرانية»، فأصدرت الصين اقتراحاتها الخاصة والتي أشارت «كلير ميلز» من «مكتبة مجلس العموم» إلى أنها دعت إلى؛ احترام مبادئ الأمم المتحدة، وإنشاء هيكل أمني أوروبي متوازن، لكنها أهملت ذكر انسحاب القوات الروسية من أوكرانيا أو عودة الأراضي المحتلة، مما أدى إلى رفض كل من كييف والتحالف الغربي هذه الخطة باعتبارها موالية بشكل سافر لروسيا.
وفي الواقع، في حالة كل من خطط السلام الأفريقية والصينية الخاصة بأوكرانيا، فإن وضعهم المتصور على أنهم «محاورون متعاطفون» مع روسيا كما وصفهم «فريدمان»، بمعنى أن؛ الحكومات الغربية وأوكرانيا قد رفضتا محتويات تلك الخطط رغم صدقها.
في غضون ذلك، يمكن أن تبرهن دول عدم الانحياز في الشرق الأوسط أن لديها أفضل الفرص للعمل كوسطاء ناجحين لإنهاء الصراع، لاسيما أنها حققت أكثر النتائج الدبلوماسية الملموسة حتى الآن، وفي حالة السعودية على وجه الخصوص، تمكنت المملكة من الاحتفاظ بعلاقات عمل مع كِلا الطرفين المتحاربين، مما أتاح لها قنوات حوار مفتوحة.
تحدث ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان» مع «بوتين» عبر الهاتف، ودعا «زيلينسكي» إلى قمة «جامعة الدول العربية» في مايو السابق، وفي سبتمبر 2022، ساعدت الرياض أيضًا في التفاوض على عودة الأسرى الأوكرانيين والروس، وتم تقييم محادثات السلام التي استضافها السعوديون في جدة في أغسطس 2023 من قبل المحللين الغربيين ليس فقط باعتباره تقدمًا مهمًا في المساعي الدبلوماسية لإنهاء الحرب، ولكن أيضًا كدليل إضافي على حجم النفوذ الدبلوماسي المتنامي للمملكة والخليج العربي.
قبل الاجتماع، أدرك المراقبون أن الاتفاق والاجماع الدولي حول ضرورة إنهاء الحرب كان «غير مرجح»، وفقًا لما ذكره «أيهم كامل»، من مجموعة «أوراسيا»، لكن هناك آمال أن الاجتماع قد يبني منصة لمزيد من المشاركة البناءة بين الغرب والبلدان النامية في جنوب الكرة الأرضية»، يمكن القول بأن اجتماع «جدة» كان ناجحًا، حيث استجابت 40 دولة -بما في ذلك الصين والهند، والعديد من دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية- لدعوة ولي العهد السعودي للحوار والمشاركة في المحادثات.
وبينما أشار «سانتورا» و«نيريم» و«بيرسون» إلى أن؛ العديد من البلدان التي أعلنت حيادها، يبدو أنه من غير المرجح أن تغير مواقفها، لأنها تفضل تأطير الحرب على أنها صراع بين قوى عظمى لا تريدون أن تتورط فيه.
وفي هذا الصدد قالت «أوكارول» أنه في الاجتماع تم الاتفاق على إنشاء مجموعات عمل لتطوير تفاصيل القضايا الرئيسية البارزة في خطة سلام «زيلينسكي» المكونة من 10 نقاط، مثل إعادة أسرى الحرب، والأطفال، وإدارة المساعدات الإنسانية، وضمان سلامة الأمن النووي والبيئي، والتخفيف من المخاوف المتزايدة بشأن الأمن الغذائي العالمي، بينما ستواصل مجموعة أخرى من السفراء «العمل الفني» لإعداد التفاصيل المتعلقة بتلك القضايا.
أشارت «دايل جافلاك» من «صوت أمريكا» إلى أن الدبلوماسية السعودية كانت السبب في تأمين حضور الصين في المحادثات»، وتحدث مبعوث بكين «لي هوي» عن أنه بالرغم من الخلافات، إلا أنه من المهم أن تتم مشاركة المبادئ، وهكذا شددت «أوكارول» على أهمية موافقة الحكومة الصينية على عقد قمة ثالثة في إطار أوسع للعمل الدبلوماسي العالمي، حيث أقرت وزارة الخارجية الصينية أن هذا الاجتماع ساعد على «تعزيز الإجماع الدولي» بشأن حل الصراع.
وفيما يتعلق بالسعودية، فقد أطلق «جيفوري» على الاجتماع وصف «انقلاب دبلوماسي» للمملكة، وأشار إلى أنها «إنجاز متوج» لولي العهد الأمير «محمد بن سلمان» في مجال الشؤون الدولية، من خلال الجمع بين دول من جنوب الكرة الأرضية لمناقشة الصراع وتداعياته، وأضاف «عبد الله باعبود» من مركز «كارنيجي»، أن هذا الأمر يتناسب مع طموح ولي العهد لتكون السعودية رائدة إقليميًا ولاعبًا عالميًا مهمًا».
قام «جوليان بارنز-داسي» من المجلس الأوروبي بتقييم يفيد؛ أنه من بين الدول التي تبنت التعددية القطبية الناشئة، فدول مجلس «التعاون» تضع الآن بحزم أجندتها الخاصة والموازنة بين كافة القوى العالمية ضمن أولوياتها، لتعظيم مكاسبها»، ومن خلال الانخراط في العمل الدبلوماسي جنبًا إلى جنب مع دول عدم الانحياز الأخرى مثل البرازيل والهند.
ومع حضور «جيك سوليفان» اجتماع جدة، أشار «جيفوري» أن هذا أظهر أن واشنطن «حريصة على تقديرها ونجاحها»، وكذلك احترام دور الحكومات مثل السعودية في تعزيز الدبلوماسية لإنهاء الحرب، وبالتالي تقديم مستوى من الاحترام كانت تستحقه المملكة «منذ فترة طويلة».
بالنسبة للأوكرانيين، أشار كل من «سانتورا» و«نيريم» و«بيرسون» إلى الجهود التي بذلتها كييف تقديرًا للمملكة في الأشهر الأخيرة.
وفي الواقع، ترى كييف أن هذا الاجتماع قد يعقُبه خطوة تالية نحو عقد «قمة سلام عالمية» في الأشهر المقبلة لجذب المزيد من الدول إلى جانب كييف، ونبذ موسكو دبلوماسيًا على المستوى الدولي ومع ذلك، أوضحت «نيويورك تايمز» أن حكومة «زيلينسكي» تواجه «تحديا مزدوجا» متمثلا في الحفاظ على الدعم العسكري والاقتصادي الغربي مع استمرار المجهود الحربي، وهي أيضًا «بحاجة إلى توسيع هذا الدعم» -لاسيما في المجال الدبلوماسي- «من خلال اجتذاب دول أخرى».
كانت ردود فعل الروسية على الاجتماع أقل إيجابية بكثير، وهي ما تشير إلى استمرار الصعوبات في جلب كل من موسكو وكييف إلى طاولة المفاوضات معًا، وعلق المتحدث باسم «الكرملين» «ديمتري بيسكوف» على أن حكومته «ستراقب هذا الاجتماع» ونتائجه.
ورغم أن هذا الاجتماع يُعد رائعًا لمؤيدي أوكرانيا فحسب، لكنه لا يمثل بالضرورة منصة يمكن من خلالها التوصل إلى تسوية سلمية، وتم الاعتراف بهذه النقطة على نطاق أوسع، حيث أصر «سيلسو أموريم» مستشار الرئيس البرازيلي على أن «أي مفاوضات حقيقية يجب أن تشمل جميع الأطراف»، وأنه في حين أن أوكرانيا هي «أكبر ضحية» للحرب، فإن موسكو يجب أن تشارك في إنهاء دبلوماسي للقتال «بشكل ما».
ومع ذلك، لاتزال هناك مضاعفات متعددة، على الرغم من الاعتراف الواضح من جميع الأطراف بضرورة التوصل إلى تسوية بشكل ما لإنهاء الحرب، وبالرغم من اعتراف «بوتين» بأن مبادرات دول عدم الانحياز -ولاسيما الصين وإفريقيا- يمكن أن تكون أفضل وسيلة لإيجاد سلام ولإنهاء حرب أوكرانيا، فقد أشار «فريدمان» إلى أن رئيس «الكرملين» سيصر بالمثل على قرار يضفي عليه هيئة «المنتصر».
ومع ترديد رؤى المحللين الآخرين خارج نطاق الهيكل الأمني الغربي، يرى «بيلار» أنه حتى التوصل إلى مجرد هدنة وليست معاهدة سلام كاملة قد يكون الطريق الذي يمكن أو يهدأ وتيرة الصراع، وإنهاء معاناة الأوكرانيين من حرب مستمرة قد تتطور إلى حرب أشمل، وهو ما يجعل تلك الهدنة أهم عنصر في إنهاء هذه الحرب.
على العموم، فإنه مع رفض الغرب والأوكرانيين بشكل كبير لمقترحات السلام التي قدمتها الصين والدول الإفريقية في أشكالها الحالية؛ بحجة أنها تقدم لموسكو شروطًا مواتية للحرب التي بدأتها وألحقت أضرارًا جسيمة أوروبيًا؛ فإن الجهود الدبلوماسية التي تبذلها «السعودية»، كوسيط للمحادثات بين القوى العالمية توفر احتمالية التوصل إلى إجماع عالمي حول كيفية الاتفاق على إنهاء الحرب. وفي حين حذر «روبرتسون» من أن الدور الدبلوماسي للرياض في الشؤون العالمية الأوسع، لا يزال «عملًا قيد التطوير»، فقد قيّم المحللون مؤتمر «جدة»، باعتباره «انقلابًا جيوسياسيًا رئيسيًا» آخر للمملكة، يثبت أهمية إعادة ترسيم دور دول الخليج في السياسة العالمية لتكون أكثر بروزًا.
وبالإشارة إلى مشاركة دول عدم الانحياز الأخرى، مثل الصين، والهند، والبرازيل، فإن الاجتماع يعد «دفعة كبرى»، للجهود الدبلوماسية بين الجهات الفاعلة الدولية، ويظهر أن هناك أرضية مشتركة، لتسهيل الطريق أمام إنهاء سلمي للحرب.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك