إلى جانب ارتفاع مستويات سطح البحر، والأنماط المناخية التي لا يمكن التنبؤ بها، أدى الاحترار العالمي الذي يسببه الإنسان إلى ارتفاع درجات الحرارة في جميع أنحاء العالم، بمعدل يزيد على 1,1 درجة مئوية منذ عام 1880، مع حدوث غالبية هذه الزيادة منذ عام 1975؛ ما أدى إلى استشعار الآثار المتدهورة لكثافة وتواتر موجات الحرارة المتصاعدة، حتى في أكثر المناخات اعتدالا، فضلا عن توقع حدوث تداعيات شديدة في المستقبل.
وفي هذا الصدد، لا يمكن إنكار تحذيرات علماء المناخ، بشأن الأضرار الطويلة المدى التي لحقت بالنظام الأيكولوجي العالمي، جراء ارتفاع انبعاثات الكربون، وزيادة حرارة كوكب الأرض. وسجلت أشهر صيف 2023، درجات حرارة قاسية في أجزاء كثيرة من العالم. وتم تسجيل درجات عالية للغاية في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية، وكذلك في الشرق الأوسط، ما أثار التساؤل حول مقدار الحرارة التي بمقدور البشر تحملها قبل أن تصبح مناطق معينة غير صالحة للحياة.
وفي تأييد لهذا، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريش»، أن «عصر الاحتباس الحراري قد انتهى»، واستُبدل بـ«عصر الغليان العالمي». وعليه، زاد علماء المناخ من دعواتهم للحكومات والمنظمات الدولية لاتخاذ المزيد من الإجراءات لخفض انبعاثات الكربون، وتبني الابتكارات التكنولوجية قصيرة وطويلة الأجل؛ لمواجهة الآثار المتزايدة للحرارة الشديدة، والتحديات الأمنية الناجمة عنها.
وفي السنوات الماضية، ارتفعت درجات الحرارة بشكل ملحوظ خلال فصل الصيف في جميع أنحاء العالم، لاسيما في المناطق القريبة من خط الاستواء. ومع ذلك، وفي عام 2023، تصاعدت شدة الحرارة إلى مستويات جديدة، وسط تكرر ظاهرة «النينو» الجوية، والتي تنشأ عن تغيرات في قوة الرياح، واختلاف درجات حرارة المياه في المحيط الهادئ، لدرجة أنها تؤثر على بقية النظام البيئي العالمي.
ومن بين درجات الحرارة الأكثر بروزًا، تم تسجيل 41,8 درجة مئوية في روما، وعانت مدينة «فينيكس»، بولاية أريزونا 31 يومًا متتاليًا من درجات حرارة تزيد على 43,3 درجة مئوية، و52,2 درجة مئوية سجلتها مدينة «شينجيانغ» الصينية. وإلى جانب موجات الحر في أجزاء كبيرة من أمريكا الشمالية وآسيا وأوروبا؛ أشارت «المنظمة العالمية للأرصاد الجوية»، إلى اندلاع سلسلة من حرائق الغابات في كندا واليونان.
ووفقًا لبيانات خدمة «كوبرنيكوس» لتغير المناخ بالاتحاد الأوروبي، كان متوسط درجة الحرارة العالمية في يوليو 2023، أعلى بمقدار 1,5 درجة مئوية عما كان عليه قبل عام 1900، وكانت الأسابيع الثلاثة الأولى من الشهر هي الأكثر دفئًا. فيما تم الاستشهاد من قبل «المنظمة العالمية للأرصاد الجوية»، بيوم 6 يوليو على أنه «أحر يوم مسجل». وفي سياق تلك المتغيرات الطويلة الأجل، لاحظ «كارستن هاوستين»، من «جامعة لايبزيغ»، أن شهر يوليو 2023 كان أكثر دفئًا من يوليو 2019 الأكثر حرارة على الإطلاق.
وفي السياق ذاته، لاحظ «كاسكيد توهولسكي»، من جامعة «ولاية مونتانا»، أن صيف 2023 ليس فقط «واحدا من أكثر الفصول حرارة على الإطلاق»، لكنه أيضًا «الأكثر خطورة»، مع «درجات قصوى تسببت في وفاة بعض الناس في الوقت الحالي». وأوضحت «كريستي إيبي»، من «جامعة واشنطن»، أنه من المتوقع حدوث ارتفاع مفاجئ في الوفيات المرتبطة بالحرارة هذا العام، مع تمثيل الحرارة الشديدة بـ«القاتل الصامت» في العديد من البلدان؛ بسبب عدم وجود مستوى مناسب من «الاستعداد» لمواجهة آثارها، التي يتعرض لها الإنسان.
وتوضح بيانات «الاتحاد الأوروبي»، أن أكثر من 60,000 شخص في أوروبا وحدها، ماتوا لأسباب مرتبطة بالحرارة خلال صيف عام 2022، مع تسجيل أعلى معدلات الوفيات في إيطاليا، واليونان، وإسبانيا. واستشرافًا للمستقبل، يعتقد «كارلو بونتمبو»، من خدمة «كوبرنيكوس»، أن الأشهر القليلة القادمة «ستشهد درجات حرارة قياسية». وبالنسبة إلى «زيك هاوسفاذر»، من معهد «بريكثرو»، فإنه «من المحتمل أن يكون عام 2023، هو الأكثر دفئًا منذ بدء تسجيل قياسات درجات الحرارة».
ومن خلال إعلانه بداية حقبة «الغليان العالمي»، وتأكيده أن الأرقام الواردة من خدمة «كوبرنيكوس» و«المنظمة العالمية للأرصاد الجوية»، «تتفق مع التوقعات والتحذيرات المتكررة» من علماء المناخ لسنوات وعقود عديدة قبل ذلك؛ وصف «غوتيريش»، السيناريو الحالي باعتباره «مرعبًا». وفي إشارة إلى التحذيرات المستمرة من تدهور الوضع العالمي، حذر من أن موجات الحر الشديدة في عام 2023، ستكون «مجرد البداية»، إذا لم يتم اتخاذ إجراءات فورية وأقوى لتقليل انبعاثات الكربون.
وكما هو الحال في أوروبا، وآسيا، وأمريكا الشمالية، سُجلت درجات حرارة عالية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وذكر «سكوت دانس»، في صحيفة «واشنطن بوست»، أن الحرارة الآن «تختبر حدود بقاء الإنسان في المناطق الأكثر سخونة على الأرض». وفي الجزائر، دفعت درجات الحرارة البالغة 51 درجة مئوية الحكومة إلى إصدار أعلى مستويات التأهب، ووصلت أيضًا إلى 49 درجة مئوية في تونس. فيما اندلعت حرائق الغابات في وسط سوريا، وجبال وغابات لبنان، ومناطق شمال الأردن.
وبالنسبة إلى منطقة الخليج، تم تسجيل بعض أشد درجات الحرارة عالميًا. ففي «الإمارات»، بلغت 50,1 درجة مئوية في يوليو الماضي. فيما سجلت يوم 16 يوليو بمطار بوشهر الإيراني 66,7 درجة مئوية -وهي درجة قصوى تجمع بين درجة الحرارة والرطوبة النسبية– وأعرب «دانس»، عن اعتقاده بأن تلك الدرجة، أقوى مما يمكن أن يتحمله جسم الإنسان. ومع الإشارة إلى أن الهواء «كان مشبعًا بالرطوبة»، أضاف أن هذا المزيج من الحرارة والرطوبة جعل درجة الحرارة «خارج التوقعات».
ووفقا لـ«زولتان رينديز»، سفير ميثاق الاتحاد الأوروبي للمناخ، فإنه مع استمرار ارتفاع درجات الحرارة، ستصبح الأحداث المناخية، مثل الأعاصير، والجفاف، وموجات الحر، أكثر «تواترًا وشدة»، وبالتالي «التأثير على الزراعة والموارد المائية، وصحة الإنسان». وأشار «فريدريك ويري»، من «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي»، إلى أن «بلدان الشرق الأوسط، من بين الدول الأكثر تعرضًا للتأثيرات المناخية المتسارعة الناتجة عن التغييرات الإنسانية»، مؤكدًا أن «موجات الحرارة المرتفعة، وانخفاض هطول الأمطار، وحالات الجفاف الممتدة، والمزيد من العواصف الرملية والفيضانات الشديدة»، و«ارتفاع منسوب مياه البحر»، يمكن أن تُسهم جميعها في تدهور النظام البيئي.
ومع ذلك، فإن الحرارة المرتفعة ليست ظاهرة مقتصرة على البلدان الأكثر تأثراً بالفعل بالتغيرات المناخية. ففي «بريطانيا»، ذات المناخ المعتدل نسبيًا، كانت درجات الحرارة في صيف عام 2022، هي الأكثر ارتفاعا على الإطلاق وفقًا لمكتب الأرصاد الجوية البريطاني، ناهيك عن أنه بحلول عام 2060، ستُعتبر هذه المستويات من الحرارة «متوسطة»، ويمكن وصفها بـ«الباردة» بحلول عام 2100، وإذا استمرت درجة حرارة الأرض في الارتفاع بمستواها الحالي، فإن هذه التغيرات تجلب معها سلسلة من المخاطر على صحة الإنسان، والأمن المائي، والحرائق، والفيضانات.
ونظرًا إلى الآثار الواضحة لتغير المناخ، دعا الخبراء إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات على الصعيدين الإقليمي والدولي لتقليل مستوى انبعاثات الكربون، ووضع خطط أخرى طويلة الأجل لخفض درجات الحرارة العالمية. واستجابةً لتحذيرات «الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ»، التابعة للأمم المتحدة في مارس 2023 حول أن الأرض من المرجح أن تتجاوز حد الاحترار العالمي لتصل إلى 1,5 درجة مئوية، فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، بحلول أوائل عام 2030؛ أكد «هوسونج لي» رئيس الهيئة أن هذه «لحظة حاسمة في التاريخ».
وفي يوليو الماضي تكررت هذه التحذيرات، وأوضح «رينديز» أن زيادة وطأة وشدة الحرارة الشديدة في جميع أنحاء العالم تعكس «الحاجة إلى معالجة تغير المناخ»، وتسخير متطلبات «الدور الحاسم للعلم والتكنولوجيا في إيجاد الحلول». وأضاف «بيتيري تالاس» من «المنظمة العالمية للأرصاد الجوية» أن «الحاجة إلى الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى»، علمًا بأن العمل المناخي «ليس ترفًا بل ضرورة» في الوقت الراهن.
وبالفعل توجد منتديات دولية لمعالجة العمل المناخي؛ حيث من المتوقع أن يحضر أكثر من 140 رئيس دولة و80 ألف مندوب من جميع أنحاء العالم، مؤتمر الأمم المتحدة المقبل لتغير المناخ في «دبي» نوفمبر 2023. وأشار «فيليب روزنتال» من شركة «ويليامز سيل بارتنرشيب العالمية»، إلى أن «الهدف من هذا التجمع هو خلق إمكانات اقتصادية هائلة مع تلبية الحاجة الملحة إلى خفض الانبعاثات والوفاء بالالتزامات الأخرى بموجب اتفاقية باريس». على الرغم من أن كيفية ترجمة التعهدات المتعددة من قبل الحكومات إلى إجراءات ملموسة، لا تزال حجر عثرة أمام جهود التخفيف الدولية لآثار تغير المناخ.
وتقدم منطقة الخليج مثالاً على كيفية تنفيذ ذلك. ولاحظ «جاستن دارجين» من «مؤسسة كارنيجي»، أنها تواجه «تحديًا» من أجل استبدال إنتاج الوقود الأحفوري بمصادر طاقة أكثر اخضرارًا وسط التحول الدولي. وأشار «روري مكارثي» من شركة «يلو دوور إنرجي»، إلى نجاح «الإمارات»، في «تنويع اقتصادها»، وإنتاج الطاقة بعيدًا عن النفط (من نسبة 90% في 1971 إلى 28% في 2023)، من خلال الاستثمار بكثافة في مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية، والهيدروجين.
وبالمثل، تهدف «رؤية السعودية 2030» إلى تقليل انبعاثات الكربون، بمقدار 278 مليون طن سنويًا وزراعة 10 مليارات شجرة، والوصول إلى 50% من توليد الطاقة النظيفة بحلول نهاية العقد. وأضاف «رينديز» أن هذه المبادرات «تمثل تحولًا كبيرًا في سياسات الطاقة في المنطقة»، وتؤكد «الوعي المتزايد بالحاجة إلى معالجة تغير المناخ».
وعلى الرغم من جهود تعزيز الطاقة المتجددة، وتنفيذ مبادرات لمعالجة أزمة المناخ العالمية المتفاقمة؛ فإن استمرار تدهور الأحوال الجوية القاسية في جميع أنحاء الأرض، يبرز الحاجة إلى مزيد من الإجراءات الدولية، لا سيما في المجال التعاوني، وكيف يجب أن تتحمل الدول التي تعهدت بخفض انبعاثات الكربون الخاصة بها المسؤولية عن القيام بذلك.
على العموم، مع أنه لا تزال وسائل السيطرة على الحرارة الشديدة، «بعيدة المنال»، في الوقت الراهن، فقد حذر «تالاس» من أن معاناة «الملايين من الناس»، من الحرارة الشديدة في يوليو 2023، هي «حقيقة قاسية، وردة فعل لتغير المناخ»، و«نظرة مسبقة لما هو قادم». ومع ذلك فقد أبدى «رينديز» بعض التفاؤل من أن «الجهود المبذولة للتخفيف من تغير المناخ والتكيف مع تأثيراته يمكن أن تساعد في تقليل المخاطر»، مشيرًا إلى أن «عنصر الوقت» و«العمل الحاسم» من قبل الحكومات والمسؤولين تشتد الحاجة إليهما الآن أكثر من أي وقت مضى.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك