مرة أخرى، يتم وضع قطار المصالحة على السكة حتى ينطلق نحو غايته المنشودة. ولما من الصعب التكهن بمآلات هذه الجولة مثلما كان صعباً دائماً توقع مصير الجولات السابقة ولما أيضاً من الخطأ وضع قناع التشاؤم بأن ثمة نهايات متوقعة دائماً لكل جولة مصالحة وطنية، فإن ثمة حاجة الى التفاؤل من أجل أن يظل للحياة معنى وتظل شجرتها خضراء يانعة. إن مجرد الاتفاق على تشكيل لجنة لمتابعة اللقاءات والتشاور من أجل إيجاد الحل المنشود هو بحد ذاته نجاح ولو كان ضئيلاً من أجل إعطاء هذا الأمل المرغوب. نحن بحاجة لأن نواصل الحديث يجب ألا ينقطع الحوار مهما كانت الظروف؛ لأن فكرة الحوار بحد ذاتها فكرة إيجابية، ولكن أيضاً علينا أن نوسع مداركنا ونحن نتحاور من أجل الوقوف على سبب فشل كل المحاولات السابقة.
المؤكد أننا فشلنا سابقاً، وأن ثمة جملة من الأسباب وراء هذا الفشل وربما في جوهرها «عدم الثقة»، ولكن أيضاً ماذا عن الحل المنشود وطبيعته وفهمنا له. من الواضح أن ثمة مشكلة في المنهج وفي الفرضية. الفرضية القائلة بطبيعة الحل ومنهج البحث عنه لأن الهدف يحدد طريقة تنفيذه.
ربما أن النموذج المبحوث عنه للحل لم يعد قادراً على التطور لملاءمة التحولات والتغيرات الكثيرة التي جرت تحت الجسر. بمعنى التوصل إلى تفاهم شامل كامل يغطي كل جوانب الخلاف والاختلاف وما قادت إليه التحولات في قطاع غزة من تبعات من جهة تشكيل حكومة واحدة وبسط سيطرتها بشكل كامل أو من جهة إدماج «حماس» ومن هم خارج المنظمة فيها وتبني برنامج سياسي نضالي مشترك.
ارتكز النموذج المبحوث عنه سابقاً على هاتين العمادتين بوصفهما أولاً تعيدان الوضع إلى ما كان عليه قبل ما حدث في غزة، وثانياً تؤسسان لنضال مشترك في المرحلة المقبلة. وعليه كان النقاش دائماً يدور في هذين الخطين المترافقين، حيث ظلت كل المحاولات لتحقيق تقدم فيهما تسير في اتجاهات مختلفة تتعثر حيناً وتنجح حيناً آخر، لكن من دون أن تصل إلى النقطة المنشودة.
وربما كانت أقرب لحظة هي تلك التي تم التوصل فيها إلى تشكيل حكومة وفاق وطني وتم اختيار الدكتور رامي الحمد لله رئيسا للحكومة وقامت حركة حماس بتسمية أعضاء قريبين منها في الحكومة، وتم الاحتفال بوصول الحكومة بطواقمها لغزة وبدا أن كل شيء يسير على ما يرام، وكان يمكن القول بأن هذه كانت أقرب نقطة لإنهاء الانقسام، لكن بدا واضحاً بعد أشهر أن المشكلة ليست في وجود حكومة بل في تمكين الحكومة من أن تكون حكومة حقيقية وفاعلة في غزة. وبلغة «ماكس فيبر» من أن تحتكر السلطة بكل أنواعها. وهذا ما لم يحدث حتى أنها لم تقترب من ذلك. ورويداً رويداً تفككت التفاهمات وصارت مجرد محاولات غير ناجحة تضاف إلى المزيد من المحاولات التي تعثرت في السابق.
هذا كان من جانب تشكيل حكومة أما من جهة تطوير برنامج نضالي مشترك عبر منظمة التحرير، فإن «حماس» ورغم أن برنامجها الفعلي بعيد عن خطب المساجد يكاد يتطابق مع برنامج منظمة التحرير إن لم يكن سقفه أقل انخفاضاً خاصة فيما يتعلق بالهدن والتفاهمات غير المباشرة مع الاحتلال فهي تصر على أن تختلف اللغة المعلنة للبرنامج عن حقيقته. فـ«حماس» تريد للمنظمة أن تفعل مثلها، أن تكتب شيئاً في البرنامج وتمارس شيئاً آخر. والقصة ليست قصة كلمة هنا أو كلمة هناك، حيث إن برنامج منظمة التحرير من حيث اللغة والصياغة يبدو ملائماً لكل الفصائل الفلسطينية، خاصة أنه يشير إلى النضال بكل الوسائل من أجل استعادة الحقوق الوطنية.
لكن أيضاً القصة ليست هنا، بل في حقيقة تصور «حماس» لمنظمة التحرير التي تريد أن تكون «الرقم الاول» فيها. وعليه فإن البحث عن المشترك في النضال الدولي يغيب عن «حماس» لأن هذا يعني التنازل عن بلاغة الخطاب من أجل معقولية الأهداف، فالعالم لا يتكلم بالضرورة نفس لغتنا أو حتى إن كان يتطلع إلى همومنا فليس بالضرورة أن يستخدم نفس مفرداتنا. لذلك فإن الإصرار على التوصل إلى فهم مشترك حول المقاصد من وراء أي اتفاق مصالحة أو سعي من أجل إنهاء الانقسام لا بد أن ينطلق من هذا الفهم.
لأن ما يحدث عكس ذلك فثمة بحث عن «نموذج» صار واضحاً أن تحقيقه أمر صعب، وان إنجازه سيواجه المزيد من الأزمات. القصة ليست «طوشة» بين عائلتين وعلى كل عائلة أن تتحمل تبعات مواقفها أو أن تصلح «اللي انكسر» من طرفها، بل أبعد بكثير، إنها السعي من أجل المستقبل، وحين يتم البحث عن المستقبل فلا فائدة من اللوم ولا فائدة من إخراج ميزان الربح والخسارة من عباءة الماضي أو النظر بتلسكوب فضاء للحاضر. علينا أن ننظر إلى كيف يمكن للمصلحة الوطنية أن تظل مصلحة وأن تظل وطنية. وهذا هو المهم لأن الانشغال بالنموذج السابق يعني الانشغال بالبحث عن المنفعة الفردية أو الحزبية ضمن نطاق المنفعة العامة وليست إذابة المنفعة الحزبية لصالح تكوين منفعة عامة.
بمعنى أن البحث لا يتم عن شراكة بل تقاسم، والتقاسم غير الشراكة لأن الأول يعني ضمان المواقع فيما يشير الثاني إلى التكامل خلف الأهداف المشتركة. والأهداف المشتركة يعرفها كل فلسطيني من الطفل حتى الكهل، لأنها تعني النضال من أجل فلسطين. فالسلطة كما المؤسسات ليست إلا وسيلة من أجل ضمان تحقيق تطلعات شعبنا في بلاده وتجنب المزيد من الخسارات حتى تحقيق الحلم والحفاظ على لحمة شعبنا وحمايته من التماهي والاندثار.
بالطبع هذا لا يعني التخلي عن أفضل السبل وإن كان ذلك عبر متابعة النموذج القديم، ولكن أيضاً السعي من أجل خلق تصورات مختلفة تصلح لأن تواجه قهر الانقسام وتبعاته وتحقق ولو تدريجيا الهدف الأكبر وهو تحقيق الوحدة الوطنية.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك