رغم وصف مجلس العلاقات الخارجية له بأنه؛ «أهم وسيلة للتبادل عالميًا» منذ الحرب العالمية الثانية، تراجعت هيمنة الدولار الأمريكي في التمويل العالمي بشكل ملحوظ، وبعد أن كان يمثل 73% من إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي في 2001، انخفض إلى 58% في 2023، على الرغم من أن «جورجيو كافيرو» من شركة «جلف استيت أناليتكس»، أكد أن الدولار الأمريكي «ليس على وشك الانهيار» -نظرًا لأنه لا يزال يمثل 40% من جميع المعاملات الدولية- بل هو في حالة «تدهور تدريجي».
وبالنسبة لمجموعة دول مجلس «التعاون الخليجي»، فإن اقتصاداتها الإقليمية -التي أكد البنك الدولي أنها حققت نموًا بنسبة 7,3% في 2022، في وقت كان فيه الاقتصاد العالمي يعاني الأمرين- خاصة وسط الاتجاه المتزايد المتمثل في نزع الدولرة من الاقتصاد العالمي، وجدت نفسها في خضم تقييم لديناميكية هذا النزع، وفق العديد من التعليقات الاستراتيجية.
وفي هذا الصدد، أشار المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) إلى كيفية قيام دول الخليج العربي، بـ«اتخاذ خطوات لتوسيع نطاق قدرتها على التعامل مع كل من الدول تتبني الدولار، وتلك التي تريد نزعه من اقتصاداتها العالمية على حد سواء -جزئيًا- كرد فعل على لجوء الولايات المتحدة غير المسبوق إلى العقوبات المالية القاسية ضد روسيا».
وفقًا للخبراء الغربيين المعنيين بشؤون التجارة والاقتصاد بدول الخليج، فإن جهود نزع الدولرة تبعث على القلق من جرّاء هيمنة أمريكا على الاقتصاد العالمي، بسبب استخدامها المتصاعد مؤخرًا للعقوبات الاقتصادية ضد منافسيها الجيوسياسيين، وهو الأمر الذي جعل القوى الناشئة غير الغربية حذرة من الاعتماد المفرط على النظام المالي الغربي.
وأوضح الدكتور «جيم كرين» من معهد «بيكر للسياسة العامة»، أن استخدام العقوبات المكثفة من قِبل أمريكا وحلفائها جعل التجارة المبنية على التبادل بالدولار عائقًا أمام الدول غير الغربية، وخاصة مع «الحرية المطلقة» لواشنطن في تنفيذ العقوبات الاقتصادية سواءٌ بشكل مباشر أو غير مباشر للنيل من أية علاقات تجارية تحدث خارج نطاق القواعد الأمريكية.
وأضاف «كافيرو» أن اندلاع الحرب الأوكرانية، واستخدام التحالف الغربي لعقوبات اقتصادية قوية ضد موسكو، تمثل نقطة تحول رئيسية في مناهضة الدولار الأمريكي حيث أصبح هناك «تسارعًا» في نزع الدولرة بشكل غير مسبوق خلال العام ونصف الماضيين.
وتتمثل جهود للتعاون لمناهضة هيمنة الدولار وأمريكا بشكل عام على الاقتصاد الدولي في؛ مجموعة «البريكس»، والتي أشار إليها المعهد الدولي على أنها أصبحت «كتلة جيو اقتصادية كبرى تقع جنوب الكرة الأرضية»، رغم أنها لا تضم أيًا من أعضاء مجموعة الدول الصناعية السبع، وبالتالي يمكن أن تكون بمثابة وسيلة لتقويض الهيمنة العالمية للدولار».
وبالفعل، فقد أقرض بنك التنمية الجديد (NDB) التابع للـ«بريكس» (33 مليار دولار)، لتمويل نحو 100 مشروع مختلف في الدول الأعضاء الحالية، وفقًا لما ذكرته «فاينانشيال تايمز»، بالإضافة إلى ضخه استثمارات في مصر وبنجلاديش والإمارات.
ولعل الخطط المبدئية للمجموعة تكمن في تطوير عملة تجارية مشتركة، التي أوضح «كرين» أنها قد توفر لأعضائها «تأمينًا ضد العقوبات الأمريكية»، كما حذر المستشار الاقتصادي السابق للبيت الأبيض «جوزيف دبليو» سوليفان من أن تلك العملة قد «تهز هيمنة الدولار».
وتأتي إزالة الدولرة ضمن أولويات دول «البريكس»؛ حيث تساءل الرئيس البرازيلي «لولا دا سيلفا»؛ «لماذا يتعين على جميع البلدان أن تبني تجارتها على الدولار؟»، ولقد قامت إيران وروسيا بتوسيع استخدام عملتيهما في التجارة الثنائية في محاولة لدعم اقتصادات بعضهما البعض المتعثرة وتجنب العقوبات الغربية؛ ومن جانبه أضاف «كافيرو» أن الصين -أكبر منافس للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي- «لطالما أرادت أن ترى عملتها تكتسب قدرًا أكبر من الزخم في التجارة الدولية»، و«أمضت سنوات في محاولة زيادة اعتماد عملتها عالميًا»، وفي الواقع، فإنه منذ فبراير 2022، أبرمت قائمة موسعة من البلدان مثل البرازيل والأرجنتين وروسيا صفقات تجارية ثنائية مع بكين باستخدام اليوان بدلا من الدولار.
وفي هذا السياق، وسعت الصين أيضًا تجارتها باليوان في الشرق الأوسط والخليج، مما أثار التساؤل حول المدى الذي قد تذهب إليه دول مجلس «التعاون» في المساهمة في جهود إزالة الدولرة من الدول غير الغربية، ومع أن المعهد «الدولي للدراسات الاستراتيجية» قد أشار إلى أن دول الخليج -في ضوء شراكاتها الاستراتيجية مع أمريكا- «لطالما دعمت النظام الدولي القائم على الدولار» لتعزيز عمليات التمويل الدولي منذ السبعينيات.
فالعلاقة الاقتصادية بينهم» قد دعمت وضع الدولار باعتباره العملة الاحتياطية والتجارية الرئيسية عالميًا»، كما أشار المعهد إلى كيفية «لجوء أمريكا إلى ضوابط التصدير، والعقوبات المالية، وتحديد الحدود القصوى لأسعار النفط؛ ضد موسكو»، وتغيرت وجهات نظر أعضاء مجلس «التعاون»، خاصة مع رؤية أن تلك العقوبات تهدد بتفكيك النظام الاقتصادي الدولي.
وأشار المعهد إلى جهود «إزالة الدولار في منطقة الخليج» من قِبل بكين؛ حيث حث الرئيس الصيني «شي جين بينغ» على أن يتم تداول إمدادات النفط والغاز الطبيعي بين الخليج والصين باليوان بدلا من الدولار، بالإضافة إلى اقتراح استخدام نظام الدفع عبر الحدود بين البنوك «CIPS»، وهو بديل صيني-روسي لنظام «سويفت» المالي العالمي الذي تعترف به الدول الغربية.
وعلق وزير المالية السعودي، «محمد الجدعان»، على التكهنات بين المحللين الغربيين حول توثيق التعاون الاقتصادي السعودي-الصيني باستخدام اليوان، في تصريحاته في قمة «دافوس» الاقتصادية 2023، مشيرًا أن المملكة منفتحة على المزيد من التداول بعملات أخرى غير الدولار لتحسين علاقاتها التجارية مع بقية دول العالم، لاسيما وأنها ليس «لديها مشاكل في مناقشة كيفية تسوية ترتيباتها التجارية بأي شكلٍ كان».
علاوةً على ذلك، طلبت السعودية رسميًا الانضمام إلى مجموعة «البريكس»، وأيضًا احتمالية الانضمام إلى بنك التنمية الجديد التابع للـ«بريكس»، وهو بديل للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وأوضحت «ذا إيكونوميست» أن هذه الخطوة ستعزز وصول المملكة إلى «الأسواق الناشئة» في دول «البريكس»، وستكون أسواقها «ذات أهمية متزايدة لسياسة التصنيع التي تنتهجها السعودية لتعزيز الصادرات غير النفطية».
وفيما يتعلق بمنطقة الخليج، فإنه في أواخر مارس 2023، تم إبرام صفقة «الأولى من نوعها»، حيث تم الانتهاء من أول اتفاق لبيع الغاز الطبيعي المسال بين الصين والخليج باستخدام عملة اليوان، وبموجب ذلك اشترت المؤسسة الوطنية الصينية للنفط البحري «سينوك» وتوتال إنرجي الفرنسية 65 ألف طن من الغاز الطبيعي المسال من الإمارات العربية المتحدة.
وفي أغسطس من نفس العام، قررت الحكومة المصرية إصدار سندات باليوان لأول مرة، وفي فبراير 2023، ووسط «نقص» الدولار الأمريكي، أعطى البنك المركزي العراقي أيضًا الضوء الأخضر لاعتماد التجارة مع الصين باستخدام اليوان، وفي حالة العراق، لاحظ المعهد «الدولي للدراسات الاستراتيجية» أن بغداد كافحت للترويج لاستخدام عملتها الخاصة، حتى بعد أن حظرت استخدام الدولار لتسوية المعاملات المحلية، وأن الصين أصبحت «لاعب اقتصادي رئيسي» في هذا الصدد، بسبب امتلاك شركاتها حصصًا في ما يقرب نصف إنتاج النفط بالعراق، وعليه فإن بكين مناسبة بشكل خاص هناك لتوسيع استخدام عملتها اليوان.
وبصرف النظر عن حالة الصين، تقدم العملات الرقمية أيضًا وسيلة جديدة لدول الشرق الأوسط لتنويع أصولها المالية بعيدًا عن الاعتماد على الدولار، ومن الأمثلة على ذلك إطلاق مشروع «عابر» للعملة الرقمية المشتركة بين مؤسسة «النقد العربي السعودي» ومصرف «الإمارات العربية المتحدة المركزي» لتجربة استخدام عملة رقمية ثنائية الإصدار لتسوية المعاملات.
كما شارك مصرف «الإمارات المركزي» مع بنك «التسويات الدولية» في هونج كونج، وسلطة النقد في هونغ كونغ، وبنك تايلاند، ومعهد «أبحاث العملات الرقمية» التابع لبنك «الشعب الصيني»، في مشروع منصة «الجسر» للعملات الرقمية للبنوك المركزية بهدف؛ تسريع المدفوعات عبر الحدود، وتمويل التبادل التجاري الدولي بين البنوك المشاركة باستخدام العملات الرقمية للبنوك المركزية.
ومع ذلك، فقد أكد «كافيرو» أن أعضاء مجلس «التعاون» ليسوا المحركين الرئيسيين للبعد عن الدولار، لاسيما مع تعرض دول أخرى للعقوبات -خاصة إيران التي تقود الدعوات الإقليمية لإزالة الدولرة- فقد أشار الدكتور «جون كالابريس» من معهد «الشرق الأوسط» أن؛ التعاون الخليجي مع الصين يمكن أن يُرى كأداة لإرسال رسالة إلى واشنطن مفادها أن دول الخليج ليسوا «بيادق»، وأن هناك بدائل، وأنهم يتوقعون ضمانات أمريكية حقيقية..».
وفي المنطقة، تؤيد إيران نزع الدولرة، ففي ظل العقوبات الاقتصادية الأمريكية، سعت لإزالة الدولار من معاملاتها النفطية للتحايل على العقوبات المالية، ما جعلها الأكثر خبرة في نزع دولرة من المعاملات التجارية -وفقًا للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية- إلا أن الجهود المبذولة لإتمام المزيد من الصفقات مع الهند وتركيا قد أُحبطت في النهاية من قبل الغرب، مما يعني أن إيران اضطرت «بشكل مستمر» إلى إعادة تشكيل تدابيرها التجارية مع بقية دول العالم.
إن نزع الدولرة في الشرق الأوسط له حدوده في الوقت الحالي، في حين أن «كافيرو» أكد أن «الحرب المالية الشاملة للولايات المتحدة ضد روسيا قد دفعت المزيد من البلدان عبر الجنوب العالمي للبحث عن بدائل للدولار الأمريكي»، وقد أفاد المعهد أن غياب بديل موثوق للدولار هو الحاجز الاقتصادي الرئيسي الذي يمنع أعضاء المجلس من تبني تلك السياسة.
لايزال الدولار الأمريكي هو العملة الاحتياطية الرئيسية للعملات الأجنبية، التي تحتفظ بها البنوك المركزية العالمية بنسبة استحواذ قُدرت بنحو 59% من الإجمالي العالمي، متجاوزة بكثير احتياطات اليورو (19,8%) والين (5,5%) والجنيه البريطاني (4,9%) العالمية، وفي حين ارتفعت حصة اليوان في معاملات ومدفوعات نظام «سويفت» العالمية من أقل من 2% في فبراير 2022 إلى 4,5% بعد مرور عام، فإن هذا الارتفاع يتخلف كثيرًا عن الـ حصة 84,3% من الدولار الأمريكي المسجلة في فبراير 2023.
ومع اعتراف «كرين» أن الدولار الأمريكي في نهاية المطاف «أسهل بكثير في إنفاقه» في الأسواق الدولية من البدائل الصينية، وبسبب سيطرة بكين الصارمة على رؤوس الأموال والقيود المفروضة على التحويلات داخل وخارج حدودها، فقد رأى المعهد الدولي للدراسات أنه سيكون من غير المنطقي استبدال الدولار الأمريكي بالنسبة لدول الخليج في ظل الظروف الحالية.
أن التحول عن نظام اقتصادي تهيمن عليه أمريكا إلى نظام منافس -بالنسبة لدول الخليج- من شأنه أن يجلب معه تحديات رئيسية، فقد أشار المعهد إلى قيام بكين «تاريخيًا» بخفض قيمة اليوان لتحسين قدرتها التنافسية التصديرية، وهو أمر يمكن أن يقضي على حيازات العملات الأجنبية الأخرى، وكذلك يمكن للتحول إلى العملة الصينية أن يجلب معه أيضًا مطالب من دول آسيوية أخرى «بتطبيق شروط مماثلة»، حيث تقوم أسواقها باستيراد كميات كبرى من النفط والغاز من منطقة الخليج، مثل اليابان وكوريا الجنوبية.
ونتيجة لكل هذه العوامل، خلُص المعهد إلى أنه على الرغم من أن دول الخليج تتخذ خطوات لتقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي، إلا أنه في ظل غياب بديل موثوق حاليًا، فمن غير المرجح تخليهم عن الدولار كليًا، بالرغم من ذلك، فالزخم المتزايد نحو إزالة الدولرة يشير إلى أنه لا يزال هناك مزايا في تقليل اعتمادها على أمريكا وعملتها، وفي ذات الوقت تسعى لتطوير مجموعة أدوات مالية بديلة أوسع وأشمل.
وأشارت «ذا إيكونوميست» أنه من المرجح أن السعودية ستنضم إلى مجموعة «البريكس» في السنوات المقبلة في محاولة لتعزيز العلاقات التجارية مع الأسواق الناشئة، ولكن المملكة ستحافظ أيضًا على سياستها لتحقيق التوازن وتنويع تحالفاتها الدولية، وخلُصت التعليقات الاستراتيجية للمعهد الدولي إلى أن استراتيجية دول الخليج طويلة المدى تتمتع بأفضل احتمالية للنجاح، لكونها تعمل على تطوير القدرة على التعامل مع كل من الدول التي تريد نزع الدولار من اقتصاداتها، وتلك الأخرى التي مازالت تعتمده في معاملاتها، بدلًا من قيادة الهجوم ضد نظام اقتصادي تقوده أمريكا.
وأشار «كالابريس» أن هذا لا يعني أن التغييرات العالمية الأوسع لن تستمر، طالما أن «إدمان» أمريكا وحلفائها على فرض عقوبات اقتصادية واسعة النطاق على منافسيها الجيوسياسيين هو العامل الأساسي وراء تسريع وتيرة نزع الدولار، ويبدو واضحًا أن تلك العملية لا يمكن إيقافها، لذا فالسؤال الأساسي المطروح الآن هو «متى؟» وليس «ما إذا كانت ستنتهي هيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي؟».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك