العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

التلفزيون لا يصلح دادة

شهدت‭ ‬الأشهر‭ ‬القليلة‭ ‬الماضية‭ ‬كارثة‭ ‬إعلامية‭ ‬تمثلت‭ ‬في‭ ‬تدشين‭ ‬أول‭ ‬قناة‭ ‬تلفزيونية‭ ‬أمريكية‭ ‬مخصصة‭ ‬للأطفال‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬سن‭ ‬ستة‭ ‬أشهر‭ ‬وثلاث‭ ‬سنوات،‭ ‬ويقول‭ ‬القائمون‭ ‬على‭ ‬أمر‭ ‬تلك‭ ‬القناة‭ (‬بيبي‭ ‬فيرست‭ ‬تي‭ ‬في‭  ‬https‭://‬www‭.‬babyfirsttv‭.‬com‭/) ‬وتعني‭ ‬‮«‬الطفل‭ ‬أولاً‮»‬،‭ ‬وبرامج‭ ‬القناة‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مجموعة‭ ‬ألعاب‭ ‬خفيفة‭ ‬تشد‭ ‬انتباه‭ ‬الأطفال‭ ‬وتعلمهم‭ ‬الأشكال‭ ‬الهندسية‭ ‬الأساسية‭ (‬دائرة‭ ‬ومربع‭ ‬ومستطيل‭) ‬وتمييز‭ ‬الألوان،‭ ‬وهناك‭ ‬برامج‭ ‬الغرض‭ ‬منها‭ ‬هدهدة‭ ‬الصغار‭ ‬لحملهم‭ ‬على‭ ‬النوم‭.‬

الكارثة‭ ‬الحقيقية‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬القناة‭ ‬قوبلت‭ ‬بترحاب‭ ‬فائق‭ ‬من‭ ‬ملايين‭ ‬العائلات‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وستنتقل‭ ‬خدماتها‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا‭ ‬خلال‭ ‬الأشهر‭ ‬القليلة‭ ‬المقبلة،‭ ‬ومن‭ ‬المعروف‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬عطست‭ ‬أمريكا‭ ‬وبريطانيا‭ ‬أصيب‭ ‬العرب‭ ‬بالبواسير‭ ‬وفتاق‭ ‬الحجاب‭ ‬الحاجز‭ ‬والحمل‭ ‬خارج‭ ‬الرحم،‭  ‬فإذا‭ ‬كنا‭ ‬قد‭ ‬استوردنا‭ ‬برامج‭ ‬الدعارة‭ ‬المقنعة‭ ‬والإسفاف‭ ‬والتفاهة‭ ‬واللغو،‭ ‬فهل‭ ‬يعقل‭ ‬أن‭ ‬ننجو‭ ‬من‭ ‬قناة‭ ‬كهذه‭ ‬غايتها‭ ‬جعل‭ ‬التلفزيون‭ ‬‮«‬دادة‭/ ‬جليسة‭ ‬أطفال‭ ‬إلكترونية»؟‭ ‬هل‭ ‬صار‭ ‬الأطفال‭ ‬عبئاً‭ ‬بحيث‭ ‬نسعى‭ ‬لابتكار‭ ‬وسيلة‭ ‬تلهيهم‭ ‬وتصرفهم‭ ‬عنا‭ ‬فلا‭ ‬يحتاجون‭ ‬لرعايتنا‭!  ‬هل‭ ‬هناك‭ ‬متعة‭ ‬تعادل‭ ‬متعة‭ ‬رؤية‭ ‬طفل‭ ‬رضيع‭ ‬يتعلم‭ ‬المشي‭ ‬ويقلب‭ ‬الطاولات‭ ‬ويحشو‭ ‬رغيف‭ ‬التوست‭ ‬في‭ ‬جهاز‭ ‬الفديو‭ ‬ويصاب‭ ‬بلوثة‭ ‬عقلية‭ ‬ويبدأ‭ ‬في‭ ‬الرفس‭ ‬و«الريالة‮»‬‭ ‬كلما‭ ‬رأى‭ ‬زجاجة‭ ‬أو‭ ‬كوب‭ ‬عصير‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬ضيف؟‭ ‬ماذا‭ ‬سيقول‭ ‬عني‭ ‬ولدي‭ ‬الأكبر‭ ‬وزوجته‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬يسمعا‭ ‬بأمر‭ ‬هذه‭ ‬القناة‭ ‬وأنا‭ ‬الذي‭ ‬‮«‬طربقت‮»‬‭ ‬الدنيا‭ ‬على‭ ‬رأسيهما‭ ‬عندما‭ ‬رأيتهما‭ ‬يعطيان‭ ‬حفيدي‭ ‬آيباد‭ ‬لإلهائه‭ ‬عوضا‭ ‬عن‭ ‬مجالسته‭ ‬ومسامرته‭ ‬كما‭ ‬فعلت‭ ‬انا‭ ‬مع‭ ‬عيالي؟

حتى‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬حيث‭ ‬الأسرة‭ ‬أكثر‭ ‬تماسكا‭ ‬من‭ ‬نظيرتها‭ ‬الغربية،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الأمهات‭ ‬يغنين‭ ‬للرضع‭ ‬من‭ ‬عيالهن،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬أمهاتنا‭ ‬يؤلفن‭ ‬أهازيج‭ ‬خفيفة‭ ‬أو‭ ‬يرددن‭ ‬بعض‭ ‬المتوارث‭ ‬منها،‭ ‬لتهدئة‭ ‬الصغار‭ ‬عند‭ ‬البكاء‭ ‬أو‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬الفرح‭ ‬لدخولهم‭ ‬حياة‭ ‬الأسرة‭ (‬من‭ ‬محفوظات‭ ‬أغاني‭ ‬الهدهدة‭ ‬في‭ ‬السودان‭: ‬النوم‭ ‬تعال‭/ ‬سكِّت‭ ‬الجهال‭/ ‬النوم،‭ ‬النوم‭ ‬ولدي‭ ‬الغالي‭/ ‬النوم‭ ‬النوم‭ ‬يستر‭ ‬حالي‭ ‬‭ ‬نعم‭ ‬ففي‭ ‬السودان‭ ‬نسمي‭ ‬صغار‭ ‬السن‭ ‬جهال‭ ‬ومفردها‭ ‬جاهل‭).‬

كنت‭ ‬وما‭ ‬أزال‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬التلفزيون‭ ‬أداة‭ ‬إعلامية‭ ‬مهمة‭ ‬وخطيرة،‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تلعب‭ ‬دوراً‭ ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬التنوير‭ ‬والتوعية‭ ‬والترفيه،‭ ‬ولكن‭ ‬الشيء‭ ‬إذا‭ ‬فات‭ ‬حدَّه‭ ‬أنقلب‭ ‬ضده‭. ‬فالتنوير‭ ‬صار‭ ‬تسليط‭ ‬الأنوار‭ ‬والأضواء‭ ‬على‭ ‬العورات،‭ ‬والتوعية‭ ‬صارت‭ ‬تعني‭ ‬أن‭ ‬التلفزيون‭ ‬‮«‬وعاء‮»‬‭ ‬ينضح‭ ‬بالوسخ‭ ‬والعفن‭ ‬والنتانة،‭ ‬والترفيه‭ ‬صار‭ ‬مفهوماً‭ ‬هلامياً‭ ‬تمارس‭ ‬بمقتضاه‭ ‬تجارة‭ ‬الرقيق‭ ‬الأبيض‭ (‬الحمد‭ ‬لله‭ ‬أن‭ ‬السواد‭ ‬الذي‭ ‬يرمز‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬للبؤس‭ ‬وسوء‭ ‬الحظ‭ ‬والتعاسة‭ ‬لا‭ ‬يستخدم‭ ‬للرمز‭ ‬إلى‭ ‬الفسوق‭ ‬والفجور‭ ‬العادي‭ ‬أو‭ ‬الإلكتروني‭).‬

ما‭ ‬دور‭ ‬الأب‭ ‬أو‭ ‬الأم‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬إذا‭ ‬قام‭ ‬التلفزيون‭ ‬بمهمة‭ ‬الهاء‭ ‬طفل‭ ‬رضيع‭ ‬عن‭ ‬اللعب‭ ‬والعبث؟‭  ‬كانت‭ ‬لي‭ ‬بنت‭ ‬‮«‬عذبتني‮»‬‭ ‬في‭ ‬طفولتها‭ ‬بشقاوتها‭ ‬وعنادها،‭ ‬وكانت‭ ‬لا‭ ‬تنام‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬استلق‭ ‬على‭ ‬ظهري‭ ‬ورقدت‭ ‬هي‭ ‬فوق‭ ‬بطني‭ ‬فأطبطب‭ ‬على‭ ‬ظهرها‭ ‬بلطف‭. ‬كانت‭ ‬مزعجة‭ ‬ومرعبة‭ ‬بدرجة‭ ‬أن‭ ‬جدتها‭ ‬لأمها،‭ ‬وكانت‭ ‬امرأة‭ ‬تتسم‭ ‬بالصبر‭ ‬الشديد‭ ‬وطول‭ ‬البال،‭ ‬كانت‭ ‬تقول‭ ‬كلما‭ ‬رأتها‭ ‬نائمة‭: ‬نوم‭ ‬الظالم‭ ‬عبادة‭!! ‬ويا‭ ‬ويلي‭ ‬إذا‭ ‬نمت‭ ‬قبلها‭. ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬تدخل‭ ‬إصبعها‭ ‬في‭ ‬عيني‭ ‬أو‭ ‬فتحة‭ ‬أنفي‭ ‬فأصرخ‭ ‬وانتفض‭ ‬من‭ ‬الألم‭ ‬فتبتسم‭ ‬في‭ ‬خبث‭ ‬وتغمض‭ ‬عينيها‭ ‬لتوهمني‭ ‬بأنها‭ ‬فعلت‭ ‬ذلك‭ ‬وهي‭ ‬نائمة‭. ‬وعندما‭ ‬كبرت‭ ‬وصارت‭ ‬تستحي‭ ‬أن‭ ‬تنام‭ ‬فوق‭ ‬بطني‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬قربي‭ ‬على‭ ‬السرير،‭ ‬أحسست‭ ‬بمرارة‭ ‬‮«‬الفراق‮»‬‭..  ‬مررت‭ ‬بتجربة‭ ‬الانسحاب‭ ‬withdrawal‭ ‬التي‭ ‬يمر‭ ‬بها‭ ‬‮«‬المدمن‮»‬‭ ‬عندما‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬تعاطي‭ ‬شيء‭ ‬معين‭!  ‬أصغر‭ ‬أولادي،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬مرحا‭ ‬ضحوكا‭ ‬وشقيا‭ ‬صار‭ ‬‮«‬ثقيل‭ ‬الدم‮»‬‭ ‬لأنه‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يتصرف‭ ‬وأن‭ ‬يعامل‭ ‬كشخص‭ ‬كبير،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬يسعد‭ ‬بالرقاد‭ ‬معنا‭ ‬أنا‭ ‬وأمه‭ ‬ويكون‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬السرور‭ ‬عندما‭ ‬‮«‬أصارعه‮»‬‭ ‬أو‭ ‬أرمي‭ ‬عليه‭ ‬مخدة‭ ‬أو‭ ‬كرة‭ ‬مطاطية‭.‬

لم‭ ‬يعد‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬ذلك‭ ‬الضجيج‭ ‬الحميم‭ ‬الذي‭ ‬يبعث‭ ‬الهدوء‭ ‬في‭ ‬الأعصاب،‭ ‬ولي‭ ‬حفيدان‭ ‬صغيران‭ ‬يعيشان‭ ‬في‭ ‬السعودية‭ ‬ويزوروننا‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات،‭ ‬ونزورهم‭ ‬نحن‭ ‬مرتين‭ ‬في‭ ‬السنة،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬أحس‭ ‬بفجوة‭ ‬عاطفية‭ ‬طوال‭ ‬بعدهم‭ ‬عني‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا