في مقالنا الأسبوع الماضي (أخبار الخليج 2 أغسطس 2023 بعنوان التنمية الصناعية ومسؤوليات الحكومات العربية) تطرقنا إلى ما أورده تقرير صندوق النقد العربي حول دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في التنمية الاقتصادية. يقول التقرير إن من أهم المعوقات «عدم تطوير الشركات الصغيرة والمتوسطة ورفع قدرتها للمساهمة في خلق التنوع والشمولية في الاقتصاد». ويرى أن دور هذه الشركات في خلق تنوع وشمولية في الاقتصاد من خلال منحها فرصا في الصناعات التحويلية وإشراكها في سلاسل إمداد الشركات الكبيرة، مثل شركات مشتقات النفط وصناعة الألمنيوم والبتروكيماويات، ويمنحها فرصا للنمو. تمكين الشركات الصغيرة والمتوسطة من أخذ دور في تطوير هذه الصناعات له أهمية كبيرة في تنويع الاقتصاد وتشعبه وتعميقه. استكمالا لهذه المناقشة، نظم مجلس الدكتور محمد الكويتي ندوة حول «التحديات والفرص لنمو المؤسسات الصغيرة والمتوسطة» قدمها كل من الدكتور هاشم حسين (رئيس مكتب الأمم المتحدة للتنمية الصناعية - اليونيدو) والأستاذ عبيدلي العبيدلي (رئيس الاتحاد العربي لتقنية المعلومات والاتصالات).
يقول الدكتور هاشم إن أهم عوامل الدعم للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة توافر البيئة المناسبة لريادة الأعمال. واجهت هذه البيئة في بداية تكوينها عقبة ثقافية في قبول مسمى «رائد عمل» بدلا من «صاحب عمل» الذي في الثقافة المحلية، له مكانة أكبر. قد يبدو ذلك شكليا إلا أنه بداية تكوين بيئة وثقافة الريادة والابتكار لما يحمله المسمى من دلالات على المحتوى الابتكاري والإبداعي وما تؤديه الريادة من دور كبير في الدفع بالاقتصاد الى آفاق جديدة ريادية. بتخطي هذه العقبة انطلق تشكيل البيئة المناسبة منذ 2004 بتعاون مع مكتب اليونيدو في البحرين، وكان واحدا من 8 مكاتب موزعة بين القارات الخمس، وهو ما يعكس أهمية البحرين والمنطقة. السؤال الذي واجه المكتب في تكوين البيئة المناسبة كان «كيف يستقطب الاستثمارات المحلية والأجنبية؟»، مع ما للمستثمر الأجنبي من مفاهيم مختلفة، وللمستثمر المحلي مخاوفه وتردده.
على هذه الخلفية تم تصميم النموذج البحريني بهدف «الوصول إلى أهداف التنمية المستدامة 2030 عبر ريادة الأعمال». التحدي الذي واجه، ويواجه البحرين ودول مماثلة، هو أنها دول غير منتجة للتكنولوجيا، بل تحتاج إلى نقلها وتوطينها مع جلب الاستثمارات. لذلك كان لا بد أن تضع البحرين تصورا استثماريا مغايرا للمفهوم الغربي الذي لا يواجه مثل هذه المشكلة. اعتمدت البحرين مفهوم أن «تنمية الاستثمارات المحلية هي التي تجلب الاستثمارات الأجنبية»، أي خلق ثقة في الاستثمار محليا، لكن الصعوبة في ترسيخ هذا المفهوم تكمن في تردد المستثمر المحلي في دعم ريادة الأعمال والمشاريع الناشئة؟ فكيف يمكن معالجة هذه الإشكالية؟
بدأت المعالجة بتكوين بيئة ملائمة للاستثمار في البحرين، وكانت بمبادرة من غرفة تجارة البحرين؟ أنشأت الغرفة لجنة للشركات الصغيرة والمتوسطة، ساعد على ذلك البيئة المنفتحة في الغرفة وكذاك النقاش والحوار بشكل واسع، ما حفز على ظهور أفكار ومبادرات أضافت إلى هذه الرؤية. من هذه البداية المنفتحة بدأ العمل في بناء الثقافة الريادية، وإدراكا لأهمية تكامل وترابط عناصر البيئة. ضمت هذه البيئة بالإضافة إلى الغرفة إحدى وعشرين مؤسسة منها إدارة التجارة والصناعة، وبنك البحرين للتنمية، ودخلت اليونيدو في شراكة استراتيجية معهم. كان بنك البحرين للتنمية حينها لديه إمكانيات كبيرة بالإضافة إلى توافر الأراضي الصناعية، وكانت الوزارة تمنح مبدئيا ما بين 150 و120 أرضا لمشاريع محتملة ينفذ منها 20 إلى 25 مصنعا، ما شكل تحديا أو عقبة في سرعة تنمية الصناعة.
بالإضافة إلى الاهتمام بالشركات الصغيرة والمتوسطة كان لا بد من دعم المؤسسات الناشئة. لذلك تمت إعادة هيكلة البنك وتعديل آلياته بحيث يصبح الاهتمام أكبر بتمويل المؤسسات الناشئة التي كانت تمثل التحدي الأساسي. فقد كانت الإجراءات تطالب هذه المؤسسات بتقديم دراسة جدوى عالية التكلفة (لا تقل عن 25 ألف دينار) أكبر من قدرة المبتدئين. ولم يكن لدى الشركات الكبيرة في البحرين الاهتمام الكافي بالرغم من الحديث «الشفهي» عن أهمية الشركات الصغيرة والناشئة. هذه الإشكاليات المترابطة مثلت جزءا من التحديات السابقة والحالية.
من خلال هذه التجارب اتضح لمكتب اليونيدو أن المنطقة العربية تعاني من نفس الإشكاليات والتحديات. لذلك برزت الحاجة إلى إعادة التفكير ودراسة الأمر، فأجريت دراسة قامت بها (الاسكوا- لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا)، شملت البحرين وعددا من الدول العربية. لخصت الدراسة التحديات في ضعف ثقافة ريادة الأعمال، عدم وجود تشريعات لدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، عدم وجود مراكز لتدريب وتهيئة رواد الأعمال، عدم وجود حاضنات للمؤسسات الناشئة، عدم ملاءمة التمويل لبيئة المؤسسات الناشئة، وكانت هذه مشكلة أساسية. فكان الحل في كيف يتم عكس هذا الوضع؟
بناء على نتائج هذه الدراسة وضعت اليونيدو استراتيجية في 2008، لكن اليوم أصبحت التحديات أكبر وأعمق، بدءا من أنظمة التعليم النمطي، وتأخرنا في تلبية متطلبات الثورة الصناعية الرابعة والثورة الرقمية. ستكون الإشكالية أكبر في 2030 ما لم يهيأ الشباب لمتطلبات الثورة الصناعية الرابعة والدخول في معترك التحولات الرقمية. فما هي الإشكاليات التي تواجه الدول العربية اليوم وما هي إشكاليات المستقبل القريب؟
يتطرق الأستاذ عبيدلي إلى هذا السؤال فيقول: «لا ينشأ التحول الرقمي من فراغ، بل يحتاج إلى وجود تحول يدوي بمفهومه البسيط لكي ينجح في توظيف التكنولوجيا»، بالإضافة إلى تحديد واضح للمدخلات والمخرجات والنتائج المأمولة. أما العامل الأهم في النجاح هو «الرؤية الواضحة، لماذا تريد أن تكون». إن سبب فشل معظم التجارب هو انعدام وضوح الرؤية واتساقها مع الغاية أو الرسالة. أفضل من يستطيع أن يقوم بعمليات التحول هي المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ورواد الأعمال كونها تتمتع بالرشاقة المؤسسية من دون حمولات بيروقراطية أو ممارسات متخمة كما في المؤسسات الكبيرة العامة والخاصة التي تراكمت فيها تقاليد وعادات تعيق التفكير الجذري والاستعداد للتغيير. وبالتالي، فإن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هي أكثر قدرة على استيعاب ما يستجد من محفزات تؤدي إلى مواجهة التحديات وتجاوز العقبات.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك