مثّل قرار الرئيس الروسي «بوتين» خلال العقد الماضي، الاستعانة بالشركات العسكرية الخاصة -مجموعات من المرتزقة تعمل خارج سلسلة القيادة العسكرية الرسمية- عنصرًا حاسمًا في تنفيذ القرارات، سواء في المناطق القريبة أو البعيدة، في مقدمتها «مجموعة فاجنر»، بقيادة «يفغيني بريغوجين». ووفقًا لـ«كولين كلارك»، من «معهد أبحاث السياسة الخارجية»، يمكن القول بأنهم «أكثر مجموعات المرتزقة شهرة في العالم»، وهم أيضًا بمثابة «مصدر فخر»، لموسكو، من خلال تعزيز مصالحها الاستراتيجية في الخارج.
وعلى الرغم من حظر مجموعات المرتزقة رسميًا في روسيا، فإن العلاقات الوثيقة لمجموعة «فاجنر»، مع «الكرملين»، سمحت لها بأن تصبح إحدى الركائز الموثوق بها. وبالإضافة إلى دورها القيادي في الجيش أثناء حرب أوكرانيا فبراير 2022، والاشتباك في قتال عنيف -أبرزه الذي دام شهورًا للسيطرة على مدينة باخموت- فقد جرى الاستعانة بها في جميع أنحاء الشرق الأوسط وإفريقيا؛ لدعم حلفاء «موسكو»، وتعزيز نفوذها في هذه المناطق.
ومع ذلك، أدت الإخفاقات المتكررة لروسيا في عمليتها العسكرية بأوكرانيا، إلى تصدع العلاقات بين «فاجنر»، و«موسكو». ومع قيادة «بريغوجين»، «تمردًا مُجهضًا» في أواخر يونيو 2023، ضد القادة العسكريين الروس، ومن ثم نفيهم بعدها في بيلاروسيا، ناقش المعلقون الغربيون التأثير المباشر لحلها على مستقبل الحرب الأوكرانية. وبالنسبة إلى الشرق الأوسط وإفريقيا، فإن أي انقسام محتمل للمجموعة، أو انفصالها عن موسكو، أو ما ستخلفه من فراغ أمني؛ قد يحمل عواقب وخيمة على الاستقرار في بؤر الصراع، مثل سوريا، وليبيا، ومالي، وبوركينا فاسو، حيث تنشط حاليًا.
وقبل تمردها وتقويضها للقوة الروسية، أوضحت «آنا بورشيفسكايا»، و«بين فيشمان»، و«أندرو تابلر»، من «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، كيف استخدمت «موسكو»، شركات عسكرية وأمنية خاصة منذ عام 2012 فصاعدًا، والذي تزامن مع صعود «فاجنر» -بقيادة «بريغوجين»، والذي كان «مدانا سابقا ومقرّبا من بوتين»- والتي ظهرت «باعتبارها الشركة العسكرية الخاصة الأكثر شهرة بعد أن ساعدت في تأمين ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014» من أوكرانيا. وبعد انضمامهم إلى الحرب الأوكرانية، وتجنيدهم بشكل سيئ للسجناء الروس، بناءً على وعد بالعفو من الخدمة المسلحة؛ تم اتهامهم بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين وقيامهم بأعمال انتقامية حتى ضد الجرحى من جنودهم.
ومع توقف الحرب في أوكرانيا، تصاعدت التوترات بين «بريغوجين»، وقادة الجيش الروسي النظامي. ومع تكبد المجموعة خسائر كبيرة -سقوط ما يصل إلى 20.000 ضحية في القتال من أجل باخموت وحدها– وتوجيه زعيمها اتهامات لوزير الدفاع الروسي، «سيرجي شويغو»، ورئيس الأركان، «فاليري جيراسيموف»؛ انهارت السلطة العسكرية تمامًا عندما احتلت قوات «فاجنر»، مدينتي «روستوف»، و«فورونيج»، الروسيتين، وإعلانهم التقدم نحو «موسكو»، الأمر الذي جعل هناك خطرا على نظام «بوتين»، وذلك قبل أن يتدخل الرئيس البيلاروسي، «فيكتور لوكاشينكو».
ومع تصاعد الخلاف بين «بوتين»، و«بريغوجين»، توقع المراقبون سقوط الأخير. ورأى «شون بيل»، من شبكة «سكاي نيوز»، أنها «نهاية المجموعة بشكلها الحالي». وشكك «كلارك»، في مستقبلها، خاصة وأن المقاتلين المتبقين قد مُنحوا خيارًا؛ إما بتسريحهم، أو مواصلة العمل خارج روسيا فقط، أو توقيع عقود للانضمام إلى الجيش الروسي النظامي.
وفي ظل عدم وضوح مستقبلها، أشارت «بورشفسكايا»، و«فيشمان» و«تابلر»، إلى أن التمرد الفاشل الذي قامت به المجموعة، يمكن أن يكون له «عواقب كبيرة» على «العمليات الإقليمية» لروسيا في الشرق الأوسط. ومع ملاحظة «كلارك»، كيف باتت «فاجنر»، «أنجح فاعل في الأعمال العسكرية الروسية في الخارج»، بصفتها «رأس حربة سياستها الخارجية»؛ اتفق المراقبون على أنها شكلت «أداة مهمة»، لها في «تأمين وجودها»، بمناطق الصراع في المنطقة، لاسيما سوريا وليبيا. ومن خلال تمتعهم بالخبرة في دعم الأنظمة والميليشيات المتحالفة استراتيجيًا، علق «كلارك»، بأنه مع قيامها بـ«تنفيذ مهام متعددة» من العمليات القتالية، يستطيعون أيضا تنظيم «حملات التضليل».
وفي الشرق الأوسط تحديدا، تحدثت «بورشفسكايا»، و«فيشمان»، و«تابلر»، عن كيفية اعتماد الحكومة السورية حاليًا على «فاجنر»، لحماية حقول النفط، والغاز الطبيعي الرئيسية. ومع انتشار ما بين 1000 و2000 جندي في سوريا كجزء من شبكة أوسع تضم حوالي 10,000 متعاقد عسكري أجنبي خاص، انخرطت قواتها أيضًا في عمليات مكافحة الإرهاب ضد ما تبقى من تنظيم «داعش»، مثل مساعدة قوات الجيش السوري أولاً، ثم تولي «القيادة الكاملة» في أواخر عام 2022 بوسط البلاد. وفي «ليبيا»، أشاروا إلى أنها توفر «الحماية الشخصية» لخليفة حفتر، بالإضافة إلى الحفاظ على السيطرة على المنطقة الرئيسية لتصدير النفط من خلال تمركزها بقاعدة الجفرة الجوية، التي تعتبر «محورا لوجستيا لعملياتها الإفريقية.»
وبينما أشارت «فاندا براون»، من «معهد بروكينجز»، إلى أنه في أعقاب الحرب الأوكرانية، قامت «فاجنر»، بسحب بعض قواتها من «سوريا»، و«ليبيا»، للانضمام إلى القوات الروسية، وأنها منذ صيف عام 2022 «لم تقم بتخفيض عدد عناصرها أو معداتها بشكل كبير»، وبالتالي الحفاظ على «شبكة واسعة» قادرة على استمرار العمل لتقديم «آليات الدعم اللوجستي والتهريب وغسل الأموال».
ووفقا لما أوضحه «كلارك»، فإنه إذا ما ثبت صحة انشقاق «المجموعة»، وخروجها عن سيطرة روسيا، فإن التداعيات على الأمن الإقليمي بمنطقة الشرق الأوسط قد تكون «واضحة للغاية». وفيما يتعلق بوضعها بسوريا، أشارت «بورشيفسكايا»، و«فيشمان»، و«تابلر»، إلى «الآثار المتتالية»، التي وقعت مثل التوترات والمواجهات بينها وبين المسؤولين الروس، وسحبها لقواتها من قاعدة «حميميم» الروسية غرب سوريا، واعتقال كبار قادتها.
وفي حالة تقليص الوجود الروسي في المنطقة، قد ينتج عن ذلك «فراغ»، للقوى الأخرى لتوسيع نفوذها. وأوضح «جيريمي هودج»، في مجلة «فورين بوليسي»، أن تمرد «فاجنر»، يمكن أن «يقوي إيران في سوريا». ومثلما حدث عام 2021، عندما أوقفت «موسكو»، دعمها المالي للعديد من الجهات الفاعلة التي تعمل بالوكالة لصالحها؛ فإنه يمكن لهؤلاء المرتزقة أن ينقلوا ولاءهم إلى طهران. وللتدليل على ذلك، أشار إلى أن «اللواء الثامن»، في درعا بجنوب سوريا، كان سابقًا «الوحدة الأكثر ولاءً لموسكو» في المنطقة، ولكن بعد أن خفضت دعمها المالي إلى النصف، ثم قطعت كل اتصالاتها معه، فإن هذه الوحدة الآن «تقاتل لصالح الجيش السوري».
ومن وجهة نظر «براون»، فإن التوقعات بشأن تراجع عمليات «فاجنر» في الشرق الأوسط وإفريقيا، حتى الآن «سابقة لأوانها»، خاصة أن «موسكو»، «ليس لديها رغبة في إزالة أدواتها المفيدة لبسط النفوذ في هذه المناطق». ووفقا لـ«بورشفسكايا»، و«فيشمان»، و«تابلر»، فإنه على الرغم من التأكيدات بأن علاقة المجموعة بالجيش الروسي وبوتين «تبدو في أضعف حالاتها» في أعقاب التمرد، فقد أوضحوا أنه حتى الآن «لا يوجد تغيير ملحوظ في موقف روسيا في الشرق الأوسط وإفريقيا».
علاوة على ذلك، أكد المراقبون أن روسيا تهدف إلى الحفاظ على شبكات نفوذها في الشرق الأوسط وإفريقيا، وأن المجموعة لا يزال بإمكانها خدمة هذه المصالح. وفي سوريا وليبيا وغيرهما، أكد الباحثون، أن «موسكو»، لا يزال لديها «مصلحة استراتيجية قوية في الحفاظ على وجودها»، من أجل «إظهار قوتها» خارجيًا. وبالمثل أشارت «براون»، إلى أن عمليات «فاجنر»، في مناطق الصراع هذه -لا سيما للدفاع عن حقول النفط- «تظل ذات قيمة عالية بالنسبة لروسيا من الناحية الاستراتيجية».
ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن التغييرات غير متوقعة. وأشارت «براون»، إلى أن «إعادة الهيكلة»، ستحدث حيث من المرجح أن تقوم وكالات الاستخبارات الروسية «بتطهير هياكل فاجنر، وتغيير الموالين لـ«بريغوزين»، وتعزيز العلاقات مع الكرملين»، مضيفة أن هناك نهجًا مشابهًا لتلك الهيكلة في أوكرانيا «يلقى قبولاً» من قبل «بوتين»، وهو ما قد يمكنه من الإبقاء على السلطة. وبالإشارة إلى الكيفية التي استثمر فيها «الكرملين»، المجموعة سنوات، أشار الباحثون إلى أن استبدال عملياتها بعمليات حكومية خاصة به، «سيكون صعبًا على المدى القصير»، وبالتالي من الممكن أيضًا أن تقوم «فاجنر»، «بتطوير، وتنظيم عملياتها»، بدلاً من الاختفاء من المنطقة».
من ناحية أخرى، فإن التداعيات المترتبة على استخدام الشركات العسكرية الخاصة، ومجموعات المرتزقة من قبل القوى الخارجية في المنطقة، هي أيضًا مسألة «مثيرة للجدل». وبينما أوضحت «براون»، أن المجموعة «تحت السيطرة المحكمة، فمن المرجح أن تحتفظ «موسكو»، بشركات الأمن الخاصة العاملة خارج حدودها لتعزيز مصالحها الاستراتيجية. وبالنسبة للبلدان التي «بدأت في العثور على نموذج فاجنر لإجراء العمليات العسكرية الأجنبية، أشار «كلارك»، إلى أنه لابد لهم أن يدركوا أن تمرد الأخير له «آثار مثيرة للاهتمام».
وكنتيجة لذلك، قللت «الصين» الآن أي اهتمام لديها في تطوير قوة مماثلة لتعزيز مصالحها الدولية بالنظر إلى مخاطرها، والأضرار المحتملة لها. ووفقا لما أكده «هودج»، فإن المرتزقة أنفسهم، يرون «بحكم قتالهم من أجل نيل مكاسب مادية»، أنه إذا قامت موسكو بسحب تمويلها لمجموعتهم العاملة في الشرق الأوسط وإفريقيا، فإنهم «سيُجبرون على اتخاذ قرارات عملية»، مثل التعاون مع إيران.
على العموم، في حين خلص «كلارك»، إلى أن «بوتين»، لا يزال «معتمدًا بشدة» على مجموعة «فاجنر»، وغيرها من الشركات العسكرية الخاصة لتعزيز سياسته الخارجية، وأنه بدون ذلك، ستكون روسيا «أقل قدرة على التأثير خارجيًا»، فقد أصرت «براون»، بدلاً من ذلك، على أن عملياتها في الشرق الأوسط، «ستستمر»، وإن كان ذلك بعد صياغة «قيادة وهيكل جديد»، لها.
ومع إشارة الباحثين إلى أن توجيه السيطرة للأعمال العسكرية الخارجية، بواسطة وزارة الدفاع الروسية؛ «سيعيق بشكل كبير قدرتها على إنكار صلتها أو تورطها بأي من مناطق الصراع الإقليمية مثل سوريا وليبيا»؛ فإن هذا قد يزيد من عزلتها الدبلوماسية والجيوسياسية عن الغرب، وهو ما يعني أنه من المرجح أن تكون أقل اهتمامًا بالرد على الانتقادات المتعلقة بتدخلاتها الأجنبية لتعزيز مصالحها الاستراتيجية. وفي حين أن مستقبل «فاجنر»، في المنطقة لا يزال غير واضح، فإن استمرار تورط روسيا في سوريا وليبيا، لن ينتهي في أي وقت قريب.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك