لم يكن الغزو الإسرائيلي الغاشم الذي تعرضت له بلدة جنين في الضفة الغربية في يوم 3 يوليو 2023 بالمفاجأة. كما أنه لم يكن مفاجئا مقتل 12 فلسطينيًا وجرح 120 آخرون وتدمير ما يقرب من 80 بالمائة من منازل مخيم جنين وبنيته التحتية، غير أن ذلك كله لن يغير أي شيء.
فحتى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على الرغم من وعوده السامية بتدمير «الملاذ الآمن... للجيب الإرهابي في جنين»، لا بد أنه كان يعلم أن ممارسته الدموية الغاشمة لم تكن مجدية في النهاية ولم تحقق أهدافها.
في الواقع، بينما كانت الآلة العسكرية الإسرائيلية تهدم المنازل وتحطم السيارات وتحصد الأرواح، تم الإبلاغ عن عدة هجمات انتقامية فلسطينية، بما في ذلك في تل أبيب، في 4 يوليو، وفي مستوطنة كدوميم غير القانونية في 6 يوليو.
في الحقيقة، وعلى عكس الرد الإسرائيلي على الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة عام 2000)، فإن العنف المتطرف لن يضعف، بل إنه يقوي جذوة المقاومة الفلسطينية والهجمات المضادة تجاه الاحتلال الاسرائيلي.
في ذلك الوقت، كانت السلطة الفلسطينية تتمتع بدرجة من السيطرة على الجماعات الفلسطينية وتمكنت، رغم الصعوبات الكبيرة التي واجهتها، من احتواء الشارع الفلسطيني. أما اليوم فإنه لم يعد للسلطة الفلسطينية مثل هذا النفوذ الذي يمكنها من السيطرة على الأوضاع واحتواء الشارع الفلسطيني.
وبالفعل، عندما زار وفد من مسؤولي السلطة الفلسطينية بلدة جنين في يوم 5 يوليو 2023، للتعبير عن «التضامن» والوعد بالمساعدة في جهود الإنعاش، طرد سكان جنين المسؤولين من مخيمهم. وهكذا، لم تنجح إسرائيل في استعادة أي نوع من السيطرة على جنين، ولم تنجح السلطة الفلسطينية في إعادة تشكيل نفسها كمنقذ للشعب. إذن، ما هو الهدف من كل هذا؟
كتب تسفي بارئيل في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، حيث ربط عملية جنين بأكملها، التي أطلق عليها اسم «البيت والحديقة» بمسألة «فقدان نتنياهو السيطرة السياسية» على حكومته، بل إنه فقد السيطرة على البلد بأكمله.
كتب بارئيل يقوله في مقاله الصحفي: كانت «عملية مبهرجة... لا يوجد شخص عاقل في الجيش أو جهاز الأمن العام الشاباك، أو حتى في الدوائر اليمينية الصامتة، يعتقد في الواقع أن العملية ستقضي على المقاومة المسلحة، ليس فقط في جنين، ولكن في أي مكان آخر في الضفة الغربية.
إنها «عملية مبهرجة»، وخير دليل على ذلك، تلك اللغة الصادرة عن مصادر إسرائيلية رسمية، يقودها نتنياهو نفسه.
تفاخر الزعيم الإسرائيلي اليميني المحاصر سياسياً، ولكن أيضاً قانونياً، بـ«العمل الشامل» لجيشه، الذي تم تنفيذه «بطريقة منهجية للغاية... من الأرض ومن الجو (و) بذكاء رائع».
وتعهد بنيامين نتنياهو كذلك «بالعودة إلى جنين» إذا «عادت جنين إلى الإرهاب»، وهذا «سيحدث بشكل أسرع بكثير وبقوة أكبر بكثير مما قد يتخيله الناس».
كما تحدث وزير دفاع تل أبيب، يوآف غالانت، عن «نجاح» الجيش، في «توجيه ضربة قوية إلى التنظيمات الإرهابية في جنين»، وتسجيل «إنجازات عملية مبهرة».
لكن أيًّا من هذه اللغة المضللة ليست صحيحة. ما تسميه إسرائيل بـ«المنظمات الإرهابية» في جنين هو جزء من ظاهرة أكبر بكثير للمقاومة المسلحة، وهي نفسها نتيجة لحركة أكبر للمقاومة الشعبية يشعر بها في كل ركن من أركان فلسطين المحتلة.
إن روح التمرد لا تقمعها قوة النيران. على العكس من ذلك، فإن «الإنجاز العملياتي المذهل» لإسرائيل قد صب الوقود ببساطة على نار مشتعلة ومتوهجة بطبيعتها.
لصرف الانتباه عن مشاكله المتصاعدة، ولإبقاء تحالفاته المتشددة مع السياسيين (اليمين المتطرف) وقاعدتهم الشعبية من المستوطنين اليهود غير الشرعيين سعيدة، فعل نتنياهو الشيء الأكثر حماقة. لقد حوّل ببساطة تمردًا مسلحًا محتملاً في فلسطين إلى ثورة وشيكة على مستوى الضفة الغربية.
على عكس الانتفاضة الثانية، لا إسرائيل ولا السلطة الفلسطينية لديهما أي نفوذ على الجيل الجديد من المقاومين الفلسطينيين. فهم لا يتأثرون بوعود كاذبة لدولة أو بوظائف أو بأموال دولية، ولا يبدو أنهم يخشون التهديدات بالاعتقال أو التعذيب أو حتى الموت.
على العكس من ذلك، كلما زاد العنف الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين، ازدادت جرأة الشعب الفلسطيني وإصراره على الحياة. إن أي تحليل للخطاب السياسي لهذا الجيل الفلسطيني الجديد، بما في ذلك الخطاب على وسائل التواصل الاجتماعي، يظهر درجة من الجرأة غير مسبوقة حقًا.
يمكن أن تُعزى هذه الشجاعة جزئيًا إلى قطاع غزة التي أثرت مقاومتها المستمرة – على الرغم من الحصار والحروب المروعة في العقدين الماضيين – بشكل كبير في بقية الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية.
وبينما انخرط رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وخصومه الفلسطينيون في تمثيلية مطولة من «محادثات الوحدة الوطنية» و«تقاسم السلطة»، عمل الجيل الجديد بشكل مستقل تمامًا عن هذه الشعارات السطحية وغير الصادقة.
على الرغم من أنهم ولدوا أو نضجوا في الغالب بعد توقيع اتفاقيات أوسلو في عام 1993، فإن أبناء هذا الجيل يرون أن اللغة والثقافة السياسية في تلك الحقبة غريبة عنهم.
وكأنه توجد اليوم صورتان مختلفتان لفلسطين – صورة فلسطين التي يمثلها عباس وفتح والفصائل وأوسلو وأموال المانحين وعملية السلام والسياسة القذرة وأخرى صورة فلسطين المقاومة الموحدة على الأرض، الصمود، غزة، جنين، نابلس، عرين الأسود وأكثر.
لا يبدو أن نتنياهو وجالانت ولا عباس وحلفاؤه في السلطة الفلسطينية يفهمون هذا التحول التاريخي في الخطابات السياسية والثقافات واللغة، وهم لا يرغبون في ذلك.
إنهم غير مهتمين بالتحول الثقافي لمجرد أنه لا يخدم الوضع الراهن الذي خدمهم جيدًا. نتنياهو يريد البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة. يريد جالانت إظهار براعته العسكرية – من أجل الترشح لمنصب أعلى في المستقبل – وعباس يريد الاحتفاظ بأي حصة من السلطة والأموال المخصصة له.
ربما، على مستوى أعمق، فهم جميعًا أن ما نجح في الماضي – المزيد من العنف في حالة إسرائيل والمزيد من المساعدات المالية في حالة السلطة الفلسطينية، لن ينجح في الوقت الحاضر. ومع ذلك، فمن المرجح أن يستمروا في المسار لمجرد أنهم ضعفاء ويائسون وليس لديهم رؤى طويلة المدى، ناهيك عن فهم حقيقي لما يحدث في فلسطين الآن.
بمجرد أن اجتاحت إسرائيل جنين، عاد جميع الممثلين التقليديين إلى النص القديم للحروب والغزوات الإسرائيلية السابقة. انطلقوا إلى مواقعهم، مستخدمين اللغة التي يمكن التنبؤ بها، والموافقة، والإدانة، والتصفيق، والتحذير.
بالنسبة للجيل الأكبر سنًا، توقف الزمن لديهم. فقد دفن الجيل الفلسطيني الجديد أشباح الماضي ومضى قدما إلى الأمام. والآن، هم مستعدون للتحدث عن أنفسهم والقتال من أجل أنفسهم. جنين هي البداية فقط.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك