الذوق كلمة واسعة الاستعمال، كثيرةُ الدلالات، تُطلق على المبادئ والقيم الجمالية والرقيّ في التعامل وحسن التّصرف، وجميعِ معاني اللطف والتهذيب، ومراعاة مشاعر الآخرين، والابتعاد عن إحراجهم أو جرح إحساسهم بشكل من الأشكال.
وهو مفهوم راسخٌ في الإسلام، وجزءٌ أساسي من أخلاق كلّ مسلم قبل أن تتكلّم عنه النظريات الحديثة؛ وذلك لأن الإسلام يحثّ على حُسن العشرة، وحُسن الجوار، وحُسن العمل، ويشيدُ بالفعل الحميد والسلوك النبيل، ويدعو إلى البِشر والبشاشة، وانتقاء أحسن الكلمات في مخاطبة الناس، كما ينهى عن بذاءة اللسان، وفُحش القول، وجفاف المشاعر، وقسوة القلب، وسوء التعامل.
والناظر في الذوقيات الإسلامية يجدها كثيرة ومتنوّعة شاملة جميع نواحي الحياة، فهي تشملُ الحركة الجميلة، والموقف الشجاع، والمبادرة النافعة، والكلمةَ الطيبة؛ قال تعالى: «وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إنّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا» (الإسراء:53).
قال العلامة ابن القيم رحمهُ الله: «فالشيطانُ ينزغُ بينهم إذا كلّم بعضُهم بعضا بغيرِ التي هي أحسنُ، فرُبّ حربٍ وقودها جُثَثٌ وَهَامٌ، أَهَاجَهَا القبيح من الكلام».
وفي الحديث: «لا يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسِي، ولَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي». أخرجه البخاري، فكره النبي صلى الله عليه وسلم لفظ «الخبث»؛ لبشاعته، وأرشدهم إلى العدول إلى لفظ هو أحسن منه، وإن كان بمعناه؛ تعليمًا للأدب في المنطق، وإرشادًا إلى استعمال الحسن، وهجر القبيح من الأقوال، كما أرشدهم إلى ذلك في الأخلاق والأفعال. (الطرق الحكمية، ابن القيم، ص: 41)
سئل العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو أكبر منّي، وأنا ولدتُ قبله، كره أن يقول: إنّه أكبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما أجمل هذا الذوق! وما أعظم هذا الأدب! وما أروع هذا التّصرف من عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حُبّا وتعظيما، وتوقيرا لجناب النبي صلى الله عليه وسلم!
1- فمن ذوقيات الإسلام أنه اهتم ببذل التحية والسلام، وجعل الابتسامة وطلاقة الوجه، وإدخال السرور على قلب المسلم من الصدقة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «وتبسمك في وجه أخيك صدقة». أخرجه الترمذي، قال ابن بطال: «فيه أنَّ لقاء النَّاس بالتَّبسُّم وطلاقة الوجه من أخلاق النُّبوة وهو مناف للتكبُّر، وجالب للمودَّة» (شرح صحيح البخاري 5/193).
2- ومن ذوقياته أنه جعل الناس سواسية أمام الشريعة دون اعتبارات الجنس واللون والفقر والغنى، فلا تفاضل إلا بالتقوى والعمل الصالح، كما أن الشعوب والقبائل ليست إلا وسيلة للتعارف والتآلف، لا للتفاخر والتناحر.
3- ومن ذوقياته أنه نهى عن التنمّر والسخرية والاستهزاء والتنابز بالألقاب، ودعا إلى الصلح بين المتخاصمين، واعتبرهم إخوة فيما بينهم، وعقد بينهم بعقد الإيمان، والألفة والمحبة؛ قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» (الحجرات: 10).
4- ومن ذوقياته أنه نهى عن الحسد والتباغض، واتهام الآخرين، وحرّم تتبّع عورات المسلمين، وأمر بالابتعاد عن التجسس والتفتيش وراءهم، لما في ذلك من فساد للذوق، وخراب للمجتمع، ودمار للأخلاق والعلاقات.
5- ومن ذوقياته الحث على برّ الوالدين، ومراعاة أدب الاستئذان عليهما، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، وإكرام الضيف، وحماية المظلوم، والوصية بالنساء خيرا، والرحمة على الأيتام والفقراء، والاحتشام في الملابس، والاعتدال في الطعام والشراب، والتعاملات التي تهدف إلى رقيّ الإنسان وسلامة ذوقه.
6- ومن ذوقياته أنه حذّر من إيذاء الناس في الطرقات، وأمر بإعطاء الطريق حقّه؛ «وَعِبَادُ الرحمن الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا» (الفرقان:63) أي بالحلم والسكينة، والطاعة والتواضع، كما أمر بأخذ الزينة عند المساجد، وإتيانها بالسكينة والوقار، والمحافظة على نظافتها وتطييبها، وعدم رفع الصوت أو إنشاد الضالة فيها.
7-ومن ذوقياته تعزيز ثقافة الشكر؛ فمن لم يشكر الناس لا يشكر الله، والمنع عن التطفل والتدخل في أمور الناس، أو إحراجهم بكلمة أو إشارة، أو أي شيء يأباه الذوق، فمن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
8- ومن ذوقياته دعوته إلى التفسح في المجالس ونهيه عن الثرثرة والتقعر في الكلام، ومراعاة حال المخاطبين في الحديث، والتزام التّبين والتّثبت والتحقيق والتمحيص في القول والعمل.
9- ومن ذوقياته الرحمة بالمخالف والاستماع إلى حديثه وعدم مقاطعته، وإعطائه فرصة كافية للحديث وإظهار الرأي، ومناداته بأحبّ الأسماء إليه؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عتبة بن ربيعة عندما أرسله قومه ليكلّمه في أمره: «أوقد فرغت يا أبا الوليد»، وكما يظهر جليًّا من رسائله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام حيث خاطبهم ملك الفرس بعظيم الروم، وملك كسرى بعظيم فارس.
10- ومن ذوقياته الالتزام بالعهد والوفاء في حالة الحرب والسلم، والأمن والخوف وإعطاء الأمان لمن طلب ذلك، وحسن معاملة الأسرى، وعدم الإفساد في الأرض، والمنع عن قتل الشيوخ والنساء والأطفال وأهل الصوامع.
شمعة أخيرة:
الذوقُ السليم، وكمال التهذيب، وانتقاء الكلمات، ومراعاة مستويات الناس في الفهم والإدراك من علامات السعادة ومن نعم الله العظيمة، وإنّ من أولى الناس بمراعاة ذلك العاملون في الوظائف الدينية والسلك الدعوي، وسيضفي الذوق إلى عملهم جمالا ورونقا وقبولا واستجابة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك