يمر العالم هذه الأيام بنوبة كبيرة من التشاؤم حول مستقبل البشرية. هناك مجموعة من المقالات في الدوريات العلمية تتحدث بإصرار عن الاقتراب من «موجة سادسة» للإبادة الجماعية ليس فقط للمخلوقات بصفة عامة، وإنما أيضًا للإنسان.
لا أدري ما إذا كان ذلك راجعًا إلى نوبات ارتفاع حرارة الكوكب إلى درجة غير مسبوقة، والأشكال المصاحبة لها من دخول البراكين في نوبات ثائرة، وتدفق الفيضانات في مناطق والجفاف في مناطق أخرى. مجمع كل ذلك حرائق فائرة في الغابات الساكنة، ومثيلاتها عندما يجتمع الازدحام الشديد مع شرارة هنا أو هناك.
نوبات الإبادة السابقة كانت كلها في حدود ما نعلم من صنع الطبيعة، بينما تراوحت ما بين البرودة الشديدة والحرارة الأكثر شدة، وعندما نجمت عن هذا وذاك نهاية قدرة الإنسان على توليد الغذاء وصلت حضارات كاملة إلى طريق مسدود. قيل إن هناك ملايين من المخلوقات المتنوعة، فيها الكبير بأنواع الديناصورات المختلفة، ومنها الدقيق بأشكال مختلفة من الحشرات، جرَت إبادته. الإبادة المتوقعة حاليًا جاءت بتأثيرات من الإنسان وثورته الصناعية وسلوكياته غير الحضارية، التي جعلت الكثير من المخلوقات في حالة تراجع كمي ونوعي؛ وهي الآن تصل إلى الإنسان ذاته بما سببته من «احتباس حراري» يؤثر في الكوكب.
غاب التوازن الطبيعي منذ دخل القطبان الشمالي والجنوبي إلى حالة الذوبان، وما نجم عنهما من ارتفاع في درجات الحرارة والمياه في البحار والمحيطات. عمّت الفوضى بين المخلوقات البحرية، التي اعتادت العيش في مناطق بعينها، فإذا بها تنقلب درجات حرارتها، فتجبر هذه على الهروب إلى بيئات لم تعتدها، فتزيد عدوانيتها، وتختلّ سبل تكاثرها وتناسلها.
الغريب أن مثل هذا التشاؤم حول حالة الطبيعة والإنسان يأتي في الوقت الذي تجاوز فيه الجنس البشري ثمانية مليارات نسمة، وهو ما يعكس تقدمًا لم تعرفه الأرض من قبل، وخاصة أن هؤلاء مسلحون بقدرات فائقة لاكتشاف الفيروسات والأوبئة. ومع الثورة الصناعية الرابعة المسلحة بالذكاء الاصطناعي فإن القدرات الإنسانية سوف تتضاعف خلال العقود المقبلة. المدهش أن ذلك تحديدًا هو ما يُخيف ويبعث على تشاؤم أكثر عندما تضاعف هذه الثورة القدرات التدميرية للإنسان كذلك. وليس معلومًا ما إذا كانت المصادفة هي التي دفعت بفيلم «أوبنهايمر» إلى الشاشات العالمية، ربما ليُذكر بتلك التجربة التي قام فيها إنسان بالإبادة الجماعية لإنسان آخر لكي يُقصر من عمر حرب دائرة. القصة بدأت قبل نشوب الحرب العالمية الثانية حينما طلب ألبرت أينشتاين من الرئيس فرانكلين روزفلت أن يشكل لجنة قومية من العلماء للبحث في الاستخدامات التدميرية للطاقة النووية. وهكذا باتت الولايات المتحدة جاهزة في عام 1941 لكي تسير في السباق مع ألمانيا النازية من أجل الوصول إلى السلاح النووي. ومن هذه النقطة بدأ «مشروع مانهاتن»، الذي أخذ به جي. روبرت أوبنهايمر ذو الأصول الألمانية، والذي هاجرت أسرته إلى الولايات المتحدة، وتعلم فيها لكي ينتج أول قنبلة نووية عرفها الإنسان. وفي السادس والتاسع من اغسطس عام 1945 جرى إلقاؤها على هيروشيما وناجازاكي على التوالي، وبلغ عدد الضحايا في الأولى 140 ألفًا، وفي الثانية 80 ألفًا، وكانت هذه هي الأرقام الأولى بعد القصف، أما النتيجة النهائية فقد استمرت عقودًا أُضيفت فيها عشرات الألوف ممن تعرضوا للإشعاع ونتائج الحريق.
لاحظ هنا أنه عند إلقاء هذه القنابل لم يكن لدى أمريكا إلا قنبلتان فقط، ظن اليابانيون معها أن هناك المزيد، فقرروا الاستسلام؛ وأن الأميركيين اختاروا مدينتين صغيرتين لكي تكونا ميدانًا للتجربة، ولو جرى الإلقاء على طوكيو العاصمة لكانت النتيجة أسوأ من ذلك بكثير، ولكن عصر القدرة على الإبادة الجماعية للجنس البشري بدأ على أي حال.
أوبنهايمر الذي دخل على الرئيس ترومان قائلًا إن على يده دماء قتلى السلاح الذي أخرجه إلى الوجود؛ وفي أماكن أخرى قال إنه بعد استخدام القنبلة النووية قد صار «ملاك الموت» - من الداعين إلى ضرورة «الحد من التسلح»، واعترض على إنتاج الأسلحة «الهيدروجينية» الأكثر تدميرًا. ولكن عندما نجح الاتحاد السوفييتي في إجراء أول اختبار للسلاح النووي عام 1949، بدأ السباق في العالم ولم ينتهِ حتى اليوم، وما نعرفه هو أن القنبلة الأولى باتت موصوفة بأنها قنابل الطفولة. أوبنهايمر نفسه بات عليه الدخول في معركة قاسية مع القوى اليمينية الأمريكية، التي تحت راية «المكارثية» طالت الرجل، متهمة إياه بتسريب أسرار القنبلة إلى السوفييت، وفي عام 1954 تعرض لتحقيقات مُهينة. ولكن بغض النظر عما جرى للرجل، فإن البحث عن السلاح النووي استمر بين دول العالم، وبعد أن كانت هناك خمس دول نووية معترف بها بالقوى الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وهي الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (روسيا الآن) وبريطانيا وفرنسا والصين، فإن الهند وباكستان وإسرائيل انضمت إلى هذا النادي سرًّا وعلنًا. أصبحت معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية مكتوفة الأيدي أمام عدد من الدول «القادرة نوويًّا» على إنتاج السلاح، الذي بات على مرمى حجر من القرار السياسي، تصير بعده الدولة «نووية».
خلال العقد الحالي، بات الجنس البشرى مهددًا بالإبادة الجماعية كما جرى لمخلوقات من قبل. الأوبئة التي شاهد فيها الإنسان موت أكثر من 6 ملايين نسمة من وباء «كورونا»، أما المصابون فقد تعدوا عشرات الملايين، والآن فإن الاحتباس الحراري يبدو ضاغطًا دون قدرة إنسانية على الدفع به إلى الخلف؛ ولأول مرة، منذ أزمة الصواريخ الكوبية في مطلع عقد الستينيات من القرن الماضي، يبدأ العالم مواجهة تهديدات مباشرة باستخدام السلاح النووي تكتيكية كانت أو استراتيجية في الحرب الروسية الأوكرانية، فضلًا عن التهديد الماثل من تعرض المفاعلات النووية في أوكرانيا لأخطار بالغة. ظهور فيلم «أوبنهايمر» في هذا التوقيت، بعد أن سبقه فيلم عام 1986، لا يبدو مصادفة، وإنما تذكرة للإنسانية بالأخطار البالغة للإبادة الجماعية التي تتعرض لها.
ماذا تستطيع الدول النامية أن تفعل في مواجهة هذه الحالة من التشاؤم الشديد والمدعم بموجات من التهديدات الفعلية؟ الإجابة مصيرية، والحقيقة هي أيضًا إجابة الدول البازغة، هي الاستمرار في البناء كما لو أن كل هذه الأخطار ليست قائمة، والتعامل معها كما لو أن عملية التنمية ليست جارية. ما ثبت من التجربة هو أن الاستمرار في البناء هو الذي يعطي القدرة على مواجهة هذه التهديدات، الكوني منها والمحلي. ما يدفع التشاؤم بعيدًا أنه رغم الضغوط الاقتصادية، في مصر على سبيل المثال، فإن المشروعات المصرية المختلفة يجري الاستمرار فيها؛ وإذا ما أُضيفت إليها استثمارات جديدة خاصة محلية وخارجية، ودرجات أعلى من التعاون الإقليمي، لأمكن التحصين أمام هذه المخاطر. التعاون الدولي مطلوب، ومفتاحه تعاون أمريكي صيني سواء كان ذلك ما يخص الاحتباس الحراري أو السيطرة على الخطر النووي. ولكن ذلك قصة أخرى.
{ كاتب ومفكر مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك