بغض النظر عن السماح الأمريكي للعراق بتسديد ديونه إلى إيران بالدولار، وهو ما يحدث بين حين وآخر تزامناً مع توقف إيران عن تزويد العراق بالغاز الذي يستعمله في توليد الطاقة الكهربائية، فإن ملايين الدولارات لم تتوقف عن التدفق يومياً من العراق إلى إيران.
وليس ذلك خافياً على الحكومة العراقية إذا لم نقل إنه يتم بعلمها وبتدبير منها. وإذا ما كانت الحكومة العراقية قد تعهدت في وقت سابق لوزارة الخزانة الأمريكية أنها ستشدد رقابتها على عمليات تهريب الدولار، فإنها في الوقت نفسه رفعت المسؤولية عن مصرفها المركزي الذي توقف عن التعامل مع مصارف حامت حولها الشبهات الأمريكية، وصار يزود مصارف جديدة بالدولار من خلال مزاد يومي يُباع فيه الدولار بأقل من سعره في سوق الصرف المحلية، ضماناً لأرباح شركات الصرافة، وهو ما يمكن اعتباره عملية سرقة رسمية تُستنزف من خلالها أموال الدولة لحساب عدد محدود من الأشخاص (لا يزيد على خمسة عشر شخصاً)، كلهم يعملون بالتنسيق مع المليشيات والأحزاب وتحت حمايتها.
وليس من المستبعد أن تكون المليشيات أنشأت غير مرة مصارف وهمية تابعة لها، من خلالها يتم شراء الدولار رسمياً وإيصاله إلى إيران بطرق غير رسمية لا تُلحق بالحكومة العراقية أي ضرر إذا ما تم اكتشافها أمريكياً. وهو ما يقع بين حين وآخر، فتلجأ الخزانة الأمريكية إلى فرض عقوبات على عدد من المصارف الأهلية العراقية، بما يؤدي إلى منعها من الاستمرار في تصدير الأموال إلى إيران.
ظاهرياً، يبدو العراقيون كما لو أنهم ضحكوا على خبراء الخزانة الأمريكية حين وقعوا معهم اتفاق ثقة، لا يتعامل البنك المركزي العراقي بموجبه مع المصارف الأهلية المشبوهة. ولكن ماذا لو كان الأمريكيون قد ضحكوا على أنفسهم حين فوّضوا الحكومة العراقية القيام بدور لا يمكن أن تؤديه، لأنه يتعارض مع أسباب وجودها واستمرار بقائها؟
ما من شيء لا يعرفه الأمريكيون عن حكومة محمد شياع السوداني. التي كانت لهم حصة في اختيارها، فإيران حريصة على ألا تُعيّن حكومة في العراق إلا بعد موافقة الولايات المتحدة. يعرف الأمريكيون أن السوداني إيراني الهوى والعقيدة والتوجهات. فهل يُعقل أن يُكلف رجل له كل هذه الصفات بمهمة يُراد بها إلحاق الأذى بإيران؟
لجأ العراقيون في كل مرة تنكشف فيها حيلتهم إلى إقامة مصارف بأسماء جديدة، كلها مستلهمة من القيم والمفاهيم الدينية الطائفية كالبر والطاعة والغفران والتسامح والغدير وأشبال علي وعاشوراء وسواها، ونسيان كل شيء عن المصارف التي وضع الأمريكيون تحت أسمائها خطوطاً حمراً. وفي الحالين فإن المصارف، القديمة والجديدة على حد سواء، ليست سوى كيانات ورقية تُدار عملياتها من البيوت. هل كان ذلك خافياً على الأمريكيين ولديهم عملاء في كل مفصل من مفاصل الدولة العراقية الهشة؟
يمكننا أن ننضم إلى حفلة الكذب إذا صدقنا ذلك. اليوم وغداً وكل يوم ستفرض الخزانة الأمريكية عقوباتها على مصارف أهلية عراقية، ولكن ذلك لن يؤثر قيد أنملة على تدفق الدولار على إيران.
مشكلة العراق الحقيقية تكمن في أن إيران لا تتوقف عن طلب الدولار لا بسبب اقتصادها الكبير فحسب، بل أيضاً بسبب توسعها في الإنفاق على مليشياتها في سوريا واليمن ولبنان أيضاً. إيران دولة كبيرة وجدت في العراق جيباً تمد فيه يدها لتأخذ ما تحتاج إليه. إنها لصوصية أسهمت الولايات المتحدة في إضفاء قدر من الشرعية عليها.
فلولا النظام السياسي الطائفي الذي اخترعته سلطة الاحتلال الأمريكي لما تمكنت إيران من الهيمنة على الحكومات العراقية وإخضاعها لإراداتها وحاجاتها. في أسوأ الأحوال، لم يتخلّ مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء العراقي السابق عن واجب الدولة العراقية في إنقاذ إيران من محنتها، وهي تواجه العقوبات الإيرانية. ولو تذكرنا الحصار الذي فُرض على العراق منتصف عام 1990 لأدركنا حجم ومسافة الفرق بين الحصارين.
لقد خُطط لذلك الحصار أن يكون مميتاً، أما حصار إيران في ظل وجود النافذة العراقية، فإن العقوبات الاقتصادية الأمريكية لم تصل به إلى مرحلة الحصار الشامل، وإن كانت المقارنات على هذا المستوى الإنساني الحساس لا تجوز، فهي لا تفصح عن الحقيقة لأنها تستند إلى قيم تجريدية.
غير أن ما هو ثابت أن الإمدادات المالية العراقية لم تتوقف يوماً ما وتحت عناوين مختلفة، هيمنت مسألة استيراد الغاز الإيراني المُستعمل في توليد الطاقة الكهربائية عليها في السنوات الأخيرة. وقد لا تكون دقيقة المعلومة التي تقول إن عشرين مليار دولار تذهب إلى إيران من كل مائة مليار دولار يحصل عليها العراق لقاء بيع النفط.
غير أن ميزان التبادل التجاري بين البلدين كان يشير دائماً إلى أرقام مقاربة. اللافت في الأمر أنه كلما أعلنت الولايات المتحدة حزمة من العقوبات على مصارف أهلية عراقية يُشتبه بأنها تمد إيران بالدولار تزداد الأوضاع المعيشية في العراق صعوبة بسبب تدهور سعر صرف الدينار العراقي. وهو ما يشير إلى أن ما تقوم به وزارة الخزانة الأمريكية من إجراءات بقدر ما يُربك الوضع الاقتصادي العراقي، فإنه لا يصيب هدفه الحقيقي.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك