التقى الرئيسان التركي والأمريكي أردوجان وبايدن على هامش قمة الناتو في ليتوانيا مؤخرا، في ظل بوادر صفقة دشنت بين الرجلين، تظهر ملامحها من تصريحات مسؤولي البلدين وتطور الأحداث. وأعلن ينس ستولتنبرج، الأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، عشية قمة الناتو في فيلنيوس، في أعقاب جولة مفاوضات خاطفة جمعته بأردوجان ورئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون، أن الرئيس التركي وافق على قبول انضمام السويد إلى الحلف لتصبح العضو الثاني والثلاثين فيه، ولم يُخفِ الرئيس الأمريكي في أعقاب ذلك رغبته ودعم بلاده لانضمام السويد إلى الحلف.
جاء ذلك في ظل تطور مهم حدث خلال زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لتركيا قبل ذلك، تلبية لدعوة أنقرة، في أول زيارة رسمية للرجل للبلاد منذ اندلاع الحرب، أكد خلالها أردوجان استحقاق أوكرانيا للعضوية في الحلف، وقام بتسليم خمسة قادة عسكريين أوكرانيين للرئيس الأوكراني، كانت تحتجزهم أنقره وفق صفقة تسليم أسرى بين روسيا وأوكرانيا، أبرمت العام الماضي بوساطتها، وتعهدت بموجبها، بالتحفظ عليهم في تركيا لحين انتهاء القتال.
وبقيت المجر العضو الوحيد المتبقي في حلف «الناتو» الذي أبدى قدرا من الممانعة تجاه طلب انضمام السويد اليه، بعد موافقة تركيا، الا أن مسؤولين مجريين أكدوا أنهم سيقتدون بسلوك تركيا ولن يعرقلوا عملية انضمام السويد، ما يزيد من أهمية موافقة تركيا على هذا الانضمام. ورغم أن موافقة أردوجان على إرسال بروتوكول انضمام السويد للناتو إلى البرلمان التركي للتصديق عليه، والذي يمتلك تحالف أردوجان فيه الأغلبية، يمنح الرئيس التركي مزيداً من الوقت للمراوغة، لضمان إتمام تلك الصفقة وفق شروط أنقرة، إلا أن أجواء الراحة التي سادت في فيلنيوس تؤكد ارتفاع فرص اكتمال الصفقة.
تقدمت السويد بطلب للانضمام إلى «الناتو» في عام 2022، لكن ذلك لم ينجح بسبب عدم قبول تركيا والمجر ذلك، رغم تصديق أعضاء الحلف الـ29 الآخرون على ذلك. وتميل تركيا إلى توسيع عضوية الناتو، الذي تمتلك فيه ورقة الفيتو، مثلها مثل أي عضو آخر في الحلف، لرفض عضوية أي مرشح جديد، ودعمت عضوية جورجيا وفنلندا ولا تمانع عضوية السويد، لكنها كانت تضع شروطاً تتعلق بسياسات داخلية للسويد تجاه تركيا. وسعت السويد لتلبية مطالب تركيا، فقد مررت تشريعات جديدة لمكافحة الإرهاب، وشددت العقوبة على الذين يحرضون على الإرهاب، ووافقت على تسليم العديد من الأتراك المتهمين بارتكاب جرائم في تركيا، خصوصاً هؤلاء الذين ينتمون إلى حزب العمل الكردستاني، وجماعة فتح الله جولن. إلا أن تركيا عشية قمة الأطلسي قبل أيام عبرت صراحة عن مطالب وشروط أخرى لإتمام الصفقة على رأسها صفقة للأسلحة مع الولايات المتحدة وإعادة الحوار والمفاوضات لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
بعد يوم واحد من إعطاء أنقرة الضوء الأخضر للسويد للانضمام إلى الناتو، أكدت واشنطن توجهها لإرسال طائرات مقاتلة من طراز إف 16 إلى تركيا، بالإضافة لضمها إلى مجموعة تطوير هذا النوع من الطائرات، بعد التشاور مع الكونجرس الذي يعارض العديد من أعضائه ذلك. كما أعلن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر دعم بلاده لتطلعات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتواصل دعمها لذلك، رغم عدم استحسانها ربط ذلك بقضية انضمام السويد إلى الناتو. ووعدت السويد بدعم الجهود لإحياء عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، كما وافق مسؤولو الاتحاد الأوروبي على تسريع مفاوضات عضوية أنقرة في التكتل الأوروبي. وتوجهت تركيا للانضمام إلى التكتل الأوروبي منذ أكثر من 50 عاماً من دون طائل، فقدّمت ملف ترشّحها إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية، في عام 1987، ونالت وضع دولة مرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في عام 1999، وأطلقت رسمياً مفاوضات العضوية مع التكتل في عام 2005، وتوقفت المفاوضات في عام 2016، على خلفية انتقاد حملة الحكومة التركية لمحاسبة المتورطين في الانقلاب العسكري الفاشل.
وكل هذا يجري بعد تخطي الحرب في أوكرانيا يومها الـ500، وتعثر الهجوم الاوكراني المضاد مؤخراً، الأمر الذي عقّد مجريات الحرب لصالح الغرب، وعدم تحقيق القوات الأوكرانية أي مكاسب، وغرقها في وحل حقول الألغام الروسية، واستمرار نجاح موسكو فـي التعامل مع حرب استنزاف متعددة الأوجه، وتحمل الدول الغربية كلفتها المادية، في ظل عدم وجود إشارات لانتهاء الحرب قريبا.
وتعود أهمية انضمام السويد بشكل خاص إلى الناتو لدورها في تأمين معادلة الأمن الدفاعي الشمالي الشرقي للقارة الأوروبية ومنطقة بحر البلطيق. فرغم انضمام فنلندا قبل أشهر إلى الحلف، فإن ترابط موقع البلدين يعزز تلك المنظومة في الدفاع عن دول الجناح الشرقي لحلف الناتو، وتحقيق الأمن والاستقرار العسكري في شمال وسط أوروبا، ويجعل بحر البلطيق بحيرة للناتو. وعكست تصريحات الرئيس الفنلندي سولي نينيستو أهمية انضمام السويد إلى الحلف بقوله: «إن عضوية فنلندا في (الناتو) ليست كاملة بدون السويد». كما أن الإقرار بأهمية تركيا «الجيواستراتيجية» لحلف الناتو وللأمن الأوروبي، خصوصاً في ظل دورها الوسيط بين موسكو والغرب لم يعد خافياً. إن ذلك يفسر أهمية تركيا اليوم، في ظل التطورات الدائرة بشأن انضمام السويد إلى الناتو، وفرص القبول بشروط تركيا غربيا.
وسمحت علاقات تركيا القوية مع روسيا بلعب دور الوسيط، في هذه الحرب المعقدة، رغم تعقد علاقاتها مع الولايات المتحدة والغرب قبل اندلاعها.
فتوصلت تركيا العام الماضي إلى إبرام اتفاق مع روسيا يسمح بتصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، والذي رفع الحصار الروسي عن الموانئ الأوكرانية. وأعلنت موسكو الانسحاب من الاتفاق مؤخرا، بحجة عدم الوفاء بمطالبها، بينما يواصل أردوجان مساعيه للضغط على روسيا لتمديد الاتفاق. ويتطلع زيلينسكي إلى تمديد الاتفاق الذي يوفر لبلاده الكثير من المال، وهذا رغم مواقف تركيا المتناقضة بانسجامها مع طرفي الصراع، فبينما يرى أردوجان أن لكييف الحق بالانضمام إلى الناتو، التي جاءت الحرب مع روسيا كخطوة استباقية لمنعها، ويستنكر الغزو الروسي لأوكرانيا، ويتعاون معها في تطوير الطائرات المسيّرة، لا تلتزم تركيا بتطبيق الحظر على روسيا، وتشكل قناة اقتصادية حيوية لروسيا، وتؤمّن احتياجات موسكو الحيوية من قطع الغيار خصوصاً الإلكترونية، وتسمح بوجود السفن الروسية في موانئها، كما تتواصل الرحلات الجوية وروابط التجارة بين البلدين، ناهيك عن ارتباط أنقرة بسوق الغاز الروسي. وسمحت موسكو لأنقرة بتأجيل سداد ما يصل إلى أربعة مليارات دولار من فاتورة استيراد الغاز خلال الانتخابات التركية، ما خفف من الضغط على الاقتصاد التركي. وتأتي تأكيدات أردوجان باتخاذ بلاده تلك السياسة بوعي، وعدم نيته السماح بتدهور علاقة بلاده مع روسيا، في ظل مساعيه لتحسين علاقات بلاده مع الغرب، الأمر الذي يعد ضروريا لتوفير احتياجاتها المالية في ظل أزمتها الاقتصادية القائمة.
{ باحثة وكاتبة فلسطينية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك