لا توجد ثورة واحدة في التاريخ تستعصي على النقد والمراجعة.
المراجعة غير الهدم، والنقد غير التشهير.
بعد حرب أكتوبر 1973 بدأت حملة ضارية ومتصلة لهدم ثورة 23 يوليو إنجازاً اجتماعياً ودوراً إقليمياً ومشروعاً للتغيير.
نهضت من داخل المجتمع المصري ونخبه السياسية الشابة مقاومة امتلكت درجة الضراوة.
مضى فعل الإجهاض إلى نهايته، غير أن مشروعها ظل ماثلاً في المشاهد المتحولة والانقلابات الاستراتيجية يلهم فكرة المقاومة، أن مصر تستحق نظاماً أفضل.
لم يكن إجهاض ثورة يوليو عند ثلاثة أرباع الطريق عملاً مفارقاً لمسار الثورات المصرية الحديثة، كلها تعرضت للإجهاض في أول الطريق، أو عند منتصفه.
أجهضت الثورة العرابية مبكراً، واحتلت مصر عام 1882، وران صمت طويل بأثر الانكسار حتى ارتفع على المسرح السياسي صوت مصطفي كامل.
ثم أجهضت ثورة 1919 بالتلاعب بالدستور والحكومات وحرمان «الوفد»، حزب الأغلبية الشعبية بلا منازع، من حقه في الحكم باستثناء مرات معدودة، لكن آثارها في حركة المجتمع والاقتصاد والثقافة والفنون والتعليم جعلت مصر أكثر ثقة في نفسها ومستقبلها.
بروح نقد الثورة في أربعينيات القرن الماضي بزغت روح جديدة وتيارات فكرية جديدة، مهدت الطريق لـ«23 يوليو»، التي حاربت وحوربت، أنجزت وانتكست.
وبروح النقد، التي تولدت بعد هزيمة يونيو –1967، تأكدت قيم المشاركة السياسية ودولة المؤسسات بجوار إعادة بناء القوات المسلحة من جديد على أسس علمية حديثة، وإبعادها عن أي تورط في السياسة الداخلية.
كان إجهاض ثورة يناير حلقة جديدة في الظاهرة نفسها، لكن بصورة أفدح.
لكل ثورة سياقها التاريخي، وأي كلام خارج سياق زمنه تهاويم في الفضاء.
«يوليو» لعبت دورها في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بقدر ما لعبت ثورة 1919 دورها في عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى.
في سنوات «يوليو» أطلق زعيمها جمال عبدالناصر أوسع عملية حراك اجتماعي نقلت أغلبية المصريين من هامش الحياة إلى متنها، كما تصدر مشهد حركات التحرير الوطني في العالم العربي وإفريقيا ملهماً العالم الثالث كله.
راجع عبدالناصر أخطاء تجربته، التي أفضت إلى هزيمة 1967، في محاضر رسمية، وكان من بينها تغوّل مراكز القوى في بنية الدولة، وتدخل الجيش في غير مهامه الطبيعية، ما أفقده احترافيته.
وصف الشاعر السوداني محمد الفيتوري ما جرى في يونيو وما بعده بـ«جلال الانكسار».
كان ذلك توصيفاً دقيقاً لما جرى في مصر سنوات حرب الاستنزاف، حيث خيم الحزن من دون أن يفقد المصريون ثقتهم في أنفسهم ومستقبلهم وقدرتهم على استعادة أراضيهم المحتلة بقوة السلاح.
لا توجد ثورة واحدة في التاريخ بلا أخطاء جسيمة ارتكبتها، ولا ثورة هدمت قديماً متهالكاً، وأسست لجديد يتطلبه عصره، جرت وقائعها في معامل كيمياء تتوافر لتفاعلاتها كل شروط الأمان.
بمقاييس التأثير في حركة التاريخ، فإن «يوليو» واحدة من الثورات الإنسانية الكبرى في العصور الحديثة، على ما يرى المفكر اليساري الدكتور غالي شكري.
على الرغم من مرور أكثر من قرنين على الثورة الفرنسية، فإن السجال الحاد حول وقائعها وتحولاتها وأبطالها لم يمنع الإقرار العام بدورها الجوهري في تغيير مسار التاريخ الإنساني.
يعزى للثورة الفرنسية أنها أطلقت الأفكار الأساسية في الحقوق والحريات العامة إلى آفاق لم تكن متخيلة بمعايير القرون الوسطى، والعالم بعدها اختلف بصورة جذرية عمّا كان قبلها.
في الحصاد الأخير بقيت قيمها الكبرى تؤثر وتلهم حكم الشعوب، وتوارت صفحاتها الدموية، وقصص المقاصل التي أطاحت بالرؤوس والرِدّات التي أعقبتها.
بالقدر ذاته لعبت الثورة البلشفية أدواراً لا يمكن التهوين منها في إلهام فكرة بناء عالم جديد أكثر عدلاً.
على الرغم من أي مثالب قاتلة في بنية نظامها يعزى لتلك الثورة أنها نقلت الوعي الإنساني بقضية العدل الاجتماعي إلى مستويات غير مسبوقة.
لا يمكن النظر إلى التطورات الجوهرية التي لحقت بمفاهيم الرعاية الاجتماعية داخل النظم الرأسمالية الغربية من دون الإقرار بتأثيراتها.
على منوال مماثل لعبت الثورة الصينية أكثر الأدوار أهمية في الشرق الآسيوي، حيث الكتل البشرية الهائلة التي ترزح تحت فقر مدقع وحروب بلا نهاية مع الأفيون وغيره.
نجح الصينيون في الانتقال من الثورة إلى الدولة، ومن التخطيط المركزي الصارم إلى الانفتاح الاقتصادي المحسوب، بأقل كلفة سياسية ممكنة، وأسسوا واحدة من أكثر التجارب استقراراً بزخم التراكم.
بكل التجارب لم تكن هناك ثورة مثالية ولا خالدة.
الأخطاء الفادحة من طبيعة التحولات العاصفة.
الثورات بنات عصورها، وأسوأ قراءة ممكنة لأي ثورة نزعها من سياقها التاريخي، أو إضفاء قداسة على أحداثها.
كل حدث قابل للمراجعة وكل سياسة قابلة للنقد.
الأمر نفسه ينسحب على ثورة يوليو، التي لا يتوقف السؤال حولها من حقبة سياسية إلى أخرى.
المراجعة من دواعي إنضاج الأفكار والتصورات وإكسابها القدرة على التجديد.
إذا غابت المراجعة تجمدت الأفكار قبل أن تدخل دفاتر النسيان.
القضية ليست أن تؤيد أو تعارض ثورة يوليو بقدر ما تستوعب روح المرحلة وتعقيداتها وسياقاتها، واحتياجات العصور الجديدة لإعادة قراءة الملف من جديد بروح المستقبل.
لا يمكن تأسيس أي مستقبل على تجهيل بالماضي، أو من دون استيعاب دروسه.
قادت ثورة يوليو حركات التحرير الوطني في العالم الثالث كله، باليقين فإن جمال عبدالناصر هو أبو إفريقيا الحرة، «زعيم زعماء القارة» بتعبير نيلسون مانديلا.
ثورة يوليو هي ثورة الشعوب المستضعفة في العالم الثالث طلباً للتحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي.
في شهادة على قوة الحراك الاجتماعي في سنوات يوليو، قال الدكتور «رؤوف عباس»، وهو واحد من أهم المؤرخين المصريين المعاصرين، مستعيداً تجربته الشخصية: لولا ثورة جمال عبدالناصر لكنت كاتباً في شونة وهي (مخزن للغلال والحبوب والمحاصيل الزراعية) بعد أن انقضت أيام «يوليو» تراوحت المواقف وتناقضت.
هناك من دَافع عن الأفكار والمشاريع التي صعدت به وأتاحت أمامه فرص الترقي الاجتماعي.
وهناك من تَنكّر لأصوله تسويغاً للانتماء بالادعاء إلى الطبقة المهيمنة القديمة، أو أثرياء ما بعد الانفتاح الاقتصادي.
قوة «يوليو» في مشروعها الذي غيّر خارطة مجتمعها وتجاوز حدودها إلى عالمها.
حدة السجال الممتد شهادة لـ«يوليو» بقوة النفوذ والإلهام على الرغم من انقضاء الأزمان والرجال.
{ كاتب صحفي مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك