في 18 يوليو أعلنت «روسيا» انسحابها من اتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية بعد عام من الاتفاق عليها لأول مرة. وعلى الرغم من إدانة المعلقين والمسؤولين الغربيين قرارها، فإن احتمال عزل «كييف»، التي تعد مصدرا رئيسيا للحبوب مرة أخرى عن السوق الدولية، يجدد المخاوف بشأن ارتفاع أسعار الغذاء وتفاقم القضايا الأمنية، لا سيما في بعض بلدان إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. ووفقا للأمم المتحدة، فإن القرار «قد يكون له عواقب عالمية بعيدة المدى، خاصة بالنسبة للفئات الأكثر فقرا» في العالم».
وأعاد الاتفاق الذي وقعته «روسيا»، و«أوكرانيا» في يوليو 2022، بوساطة «الأمم المتحدة»، و«تركيا»، الوصول إلى الموانئ الأوكرانية التي حاصرتها «موسكو»، منذ بدء عمليتها العسكرية في فبراير من ذلك العام، والسماح للسفن بالمرور من موانئ التصدير الرئيسية في البحر الأسود، ومنها إلى المياه الدولية. وأوضح «باتريك وينتور»، في صحيفة «الجارديان»، أن الصفقة «مصممة للتخفيف من أزمة الغذاء، التي اندلعت بسبب الحرب، وتسهيل عودة صادرات الحبوب الدولي» ومنذ توقيعها، صدرت «أوكرانيا»، 33 مليون طن من الذرة والقمح والبذور الزيتية وغيرها، وهو ما ساعد في تسهيل انخفاض أسعار الحبوب العالمية، بنسبة 35%، كما انخفض سعر طن الحبوب من 1360 دولارًا أمريكيا إلى 800 دولار، فيما أشاد الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريش»، في ذلك الوقت بالاتفاق باعتباره «بارقة أمل».
وعلى الرغم من شحن ملايين الأطنان من السلع بنجاح من أوروبا الشرقية إلى بقية العالم، وهو ما ساعد على استقرار أسعار المواد الغذائية في البلدان التي تواجه نقصًا حادًا ومخاوف أمنية؛ فقد استمرت حالة انعدام الثقة بين أوكرانيا وروسيا، حيث اتهم كلا الجانبين الآخر بمحاولة تقويض تنفيذه لأسباب سياسية، مثل ادعاء «موسكو»، أن «كييف»، فشلت في توصيل صادرات الحبوب إلى الدول الفقيرة، التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي، وهو ما يتناقض مع بيانات «الأمم المتحدة»، التي تُظهر أن الأخيرة سلمت 625 ألف طن من الغذاء إلى أفغانستان، وإثيوبيا، وكينيا، والصومال، واليمن، والسودان.
ومنذ بداية عام 2023، تراجعت بشكل ملحوظ أرقام الصادرات بنسبة 29% في أبريل، و66% في مايو، مع اتهام «المملكة المتحدة»، لروسيا بتقويض الاتفاق من خلال إبطاء عمليات التفتيش على السفن من متوسط عشرة يوميًا إلى واحدة أو اثنتين، فضلا عن وقف الصادرات من ميناء «بيفديني» الأوكراني. وأشار «وينتور»، إلى كيفية استفادتها من الجزء الثاني من الاتفاق والخاص بتقليل العقوبات والقيود الدولية على صادراتها من المواد الغذائية والأسمدة، فيما طالبت من أجل استمرار الصفقة، بمزيد من «وسائل التأمين لسفنها التجارية»، و«استئناف إمدادات الآلات الزراعية وقطع الغيار»، و«تحرير أصول وحسابات شركاتها العاملة في مجال الأغذية والأسمدة».
ومع اختلاف كلا الطرفين حول الأرقام الخاصة بصادرات السلع الأساسية، وعدم رغبتهما في الإفصاح عن أي من تفاصيلها مع محاولة تجديد الاتفاق، أنهت «روسيا» اعترافها به، وشنت ضربات ضد الموانئ الأوكرانية، الأمر الذي أدانه المسؤولون والمعلقون الغربيون، حيث وصفته «أورسولا فون دير لاين»، رئيسة المفوضية الأوروبية، بأنه «خطوة غير مسؤولة»، ورأت «ليندا غرينفيلد»، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، أنه «يتسم بالقسوة»، فيما وصفه «أنتوني بلينكين»، وزير الخارجية الأمريكي، بـ«غير المعقول».
ومن وجهة نظر «ريتش أوتزن»، من «المجلس الأطلسي»، فإن الانسحاب يتمحور حول رغبة «روسيا»، في «تخفيف ضغط العقوبات، ويشكل جزءًا من استراتيجيتها التفاوضية، وكسب المزيد من حرية المناورة في أسواق التجارة الدولية، حيث تجعل الإجراءات الإنسانية مشروطة بتنازلات تخدم مفاوضاتها العسكرية والاقتصادية والسياسية». وأشار «تيموثي آش»، من شركة «بلوباي»، إلى أنه «جزء من محاولة لإعادة السيطرة بعد التمرد المحرج لمرتزقة فاغنر نهاية يونيو 2023»، و«دليل على اليأس الذي يشعر به بوتين لنيل أي قدر من النفوذ».
من جانبها، حافظت «الأمم المتحدة» على وجهة نظر محايدة، بشأن الاتفاقية على أمل أن تكون أساسًا لتسوية نهائية لإنهاء الحرب في نهاية المطاف. فيما رفضت أيضًا مزاعم «روسيا»، بحرمانها من تصدير الأسمدة والمنتجات الزراعية الأخرى بالكامل، مستشهدة ببيانات من اتحاد مصدري الحبوب، واتحاد منتجي الأسمدة في روسيا، بأن حجم صادراتها قد وصل إلى مرحلة الانتعاش، بفضل تصدير كميات كبيرة من الحبوب.
وبالنسبة لأسواق الغذاء العالمية، ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز»، أن آثار الصفقة المنهارة بدت واضحة سريعا، مع «اهتزاز» أسعار القمح، حيث قفز المؤشر القياسي للأسعار الدولية للسلع الغذائية، وارتفعت قيمة العقود الآجلة للقمح في بورصة «شيكاغو»، بنسبة 4%. فيما ارتفعت أسعاره في البورصة الأوروبية بنسبة تزيد على 8%، فيما قفزت أسعار الذرة بأكثر من 5%. وأشارت مجلة «ذي إيكونوميست»، إلى أن هذه القفزات كانت متوقعة لأن السوق الدولية كانت تتوقع انهيار الاتفاق، فيما أرجعت الزيادة في إمدادات القمح العالمية إلى ارتفاع صادرات استراليا، وروسيا، وكندا «استثنائيا». ورأت «إميلي ماكغارفي»، من شبكة «بي بي سي»، أنه «إذا استمر انقطاع الإمدادات فترة طويلة مع ارتفاع الأسعار؛ فإن التأثير سيظهر في جميع أنحاء العالم في الأشهر المقبلة».
وعليه، حذر الخبراء والمسؤولون الدوليون من تدهور ظروف الأمن الغذائي العالمي. ومع تقييم «نغوزي إيويالا»، من «منظمة التجارة العالمية»، أن استمرار تدفق السلع والمنتجات الغذائية من البحر الأسود «أمر حاسم لاستقرار أسعار الغذاء العالمية»؛ رأت «نيكول غولدن»، من «المجلس الأطلسي»، أن «التهديد الذي يحيط بالمشهد الاقتصادي العالمي والأمن الغذائي خاصة في إفريقيا والمناطق النامية الأخرى يصعب وصفه، في ظل أن الوضع لا يزال «متقلبا» بعد عام ونصف من حرب أوكرانيا.
وفي حين سجل مؤشر «منظمة الأغذية والزراعة» للأمم المتحدة (الفاو) لأسعار الغذاء في يونيو 2020، «93» نقطة في ظل تأثيرات جائحة كورونا، فقد تسبب اندلاع حرب أوكرانيا في ارتفاعه إلى 160 نقطة في مارس 2022. وعلى الرغم من انخفاضه إلى 122 في يونيو 2023، فقد لاحظت «غولدن»، أن تضخم أسعار المواد الغذائية لا يزال أعلى بنسبة 5% سنويًا في 60% من البلدان ذات الدخل المنخفض، وحوالي 80% من البلدان ذات الدخل المتوسط، مع تضخم أسعار الغذاء الحقيقي 30% في مصر، و80% في زيمبابوي حتى قبل إعلان روسيا انسحابها من صفقة الحبوب.
وفي إفريقيا، أوضح «موريثي موتيجا»، من «مجموعة الأزمات الدولية»، أن تأثير الصفقة المنهارة سيكون «جوهريًا»، على الرغم من قلة شحنات الحبوب التي انتقلت من البحر الأسود مباشرة إلى إفريقيا، وخاصة أنها نجحت في «استقرار الإمدادات بالسوق العالمية، والحفاظ على استقرار الأسعار نسبيًا». ومع ذلك، فقد أوضح أنه إذا تعذر إحياء الصفقة، فإن ذلك «سيعقد الأزمة الاقتصادية التي تواجهها العديد من البلدان. وبشكل خاص، يعد توقيت الانسحاب الروسي «إشكاليًا»، حيث يضرب شرق إفريقيا أسوأ موجة جفاف منذ عدة عقود، ويحتاج حوالي 50 مليون شخص في كينيا، وإثيوبيا، وجنوب السودان، والصومال، إلى مساعدات غذائية إضافية، وبالتالي يعتمدون بشكل متزايد على السلع والمواد الغذائية المستوردة.
وفي حين صرح «غوتيريش»، بأن «المنظمة»، ستبدأ في تنفيذ وسائل لمواجهة «تفاقم المعاناة الإنسانية»، التي ستتبع «حتما» انهيار صفقة الحبوب، ومع استمرار انخفاض إنتاج الحبوب الأوكرانية بنسبة 35-40% عن مستويات ما قبل الحرب؛ فإن وضع «أوكرانيا»، كمزود لما يقرب من 10-15% من إمدادات القمح والذرة العالمية، سيُظهر مؤشرات انهيار صفقات التصدير في البلدان التي كانت تعتمد في السابق على مثل هذه الإمدادات، وخاصة في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط.
وعلى الرغم من توقف العمل باتفاقية الحبوب فإن المساعي الدبلوماسية لازالت مستمرة لإحيائها. ومع أن «وينتور» رأى أن تصريحات «غوتيريش»، تشير إلى رضوخه بأنها «انتهت»؛ فقد أصر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان بشكل منفصل على أن «بوتين» يرغب بالاستمرار فيها، وأنه سيثير هذا الأمر عند لقائه المقبل معه في أغسطس. في غضون ذلك، أوضح «أوتزن» أنه من المرجح «استمرار» الصفقة؛ بالنظر إلى الفوائد التي تعود على أوكرانيا وتركيا وبقية أوروبا، وكيف أن هذه البلدان ستقدم «تنازلات متواضعة» لروسيا، والتي ستقبل بها، نظرا لأن «التكاليف الاقتصادية للوقف المطول لشحنات الحبوب ستضر بها أيضا».
ومع توقف الصفقة، أضحى احتمال نشوب صراع عسكري إضافي في المنطقة «احتمالًا قويًا». ونظرًا لأن «وزارة الدفاع الروسية»، تصر على أن أي سفن تبحر في البحر الأسود من وإلى أوكرانيا تُعتبر من قبلها «ناقلات محتملة للبضائع العسكرية»، وبالتالي، فهي أهداف للهجوم؛ أعلنت أوكرانيا مواصلة شحن الحبوب من موانئها بمرافقة مسلحين، وهو أمر رأى فيه «وينتور»، أنه سيثير قلق «حدوث تصعيد». ووفقا لـ«تشارلي سيرناتينغر»، من شركة «ماركس كابيتال»، فإن تهديدات «موسكو»، بمهاجمة جميع الشحنات التي تعتبرها متعاونة مع «كييف»، بغض النظر عن الجهة التي ترفع علمها، يمكن أن «يقطع جميع شحنات الحبوب المنقولة بحرًا» من المنطقة، وبالتالي زيادة مخاوف الأمن الغذائي العالمي بشكل أكبر.
وبينما استبعد «أوتزن»، احتمال قيام المرافقة العسكرية بحماية سفن الحبوب، ضد الهجمات الروسية، فقد أضاف أن «موسكو»، لا تبدو «مستعدة لتصعيد بحري كبير»، كما أن الجهود الدبلوماسية لاستعادة الصفقة معقدة أيضًا؛ بسبب المنافسة العدائية بين الغرب وروسيا للسيطرة على السرد العام لمجريات الحرب، خاصة في دول الجنوب العالمي.
وبالنظر إلى الاتفاقية الأصلية عام 2022، أوضحت مجلة «ذي إيكونوميست»، إلى أن روسيا «كانت حريصة على استعادة تعاطف الدول النامية التي تضررت من ارتفاع أسعار المواد الغذائية». وأضاف «وينتور»، أن كلا من روسيا والغرب «سيتهمان بعضهما بإلغاء الصفقة»، كجزء من «معركتهما لإقناع الدول المتضررة بأن ارتفاع أسعار الغذاء هو ارتفاع حتمي». وفي هذه الأثناء، دعا «بلينكين»، أن تراقب كل دولة تصرفات موسكو عن «كثب»، حتى تدرك أنها «مسؤولة عن حرمان الأشخاص المحتاجين بشدة من الطعام». من جانبها، ألقت روسيا اللوم في انهيار الاتفاق على «التخريب الموسع» للدول الغربية، التي تضع مصالحها الاقتصادية الخاصة فوق أولوية الإغاثة الإنسانية.
وفي حين أن «موسكو»، تمكنت حتى الآن من الحفاظ على العلاقات السياسية والاقتصادية مع العديد من دول عدم الانحياز، فضلاً عن إقناعها بعدم إصدار إدانات علنية لشنها الحرب، فإن حججها لإنهاء تعاونها في صفقة الحبوب، لا تبدو قد أقنعت الدول التي تواجه مشكلات تتعلق بالأمن الغذائي. وفي «كينيا»، التي استقبلت في مايو 2023، وزير الخارجية الروسي «سيرجي لافروف»، ووافقت على تعزيز التجارة الثنائية، أدان «كورير سينجوي»، مسؤول بالخارجية الكينية، الانسحاب الروسي من الاتفاقية، ووصفه بأنه «طعنة في الظهر».
على العموم، يمثل انهيار صفقة الحبوب ضربة أخرى للجهود المبذولة لتسهيل إنهاء الحرب، والتخفيف من تداعياتها الاقتصادية والسياسية الدولية المتفاقمة. ومن الواضح أن حجج «موسكو»، لإنهاء الصفقة، قد فشلت في إقناع الكثيرين، فيما لا يزال استكشاف أثر الإدانة لقرارها وترجمته إلى رد فعل أوسع من البلدان في بقية إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، متوقفًا على إمدادات القمح والذرة والمواد الغذائية الأخرى التي يتم الحصول عليها من أوروبا الشرقية.
وعليه، يتبقى أن محاولات كل جانب لإلقاء اللوم على الآخر، لا تغير حقيقة استمرار معاناة ملايين البشر في أنحاء العالم، مع احتمال انخفاض الصادرات والتصعيد العسكري، حيث ستواجه الدول النامية التي كانت تعتمد على السلع الأساسية من أوروبا الشرقية الآن جولة أخرى من عدم اليقين بشأن الأمن الغذائي، ومن ثمّ، عدم الاستقرار السياسي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك