تشكل معركة الرئيس التونسي قيس سعيد نموذجا للمواجهة بين الدول التي تعاني من مشكلات وأزمات اقتصادية واجتماعية وبين صندوق النقد الدولي، والتي أصبحت معلومة ومكررة في العديد من البلدان الفقيرة والمأزومة اقتصاديا.
لقد طلبت تونس من صندوق النقد الدولي قرضا لسد العجز في ميزانيتها لعام 2023 وذلك بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية المستفحلة منذ سنوات عديدة وبسبب التركة الثقيلة التي ورثها الرئيس سعيد عن الحكومات السابقة، فيما بات يسمى في تونس العشرية السوداء، التي أثرت تأثيرا مدمرا على تونس نتيجة للفساد والسرقات والنهب والتداين المفرط، ما أدى إلى عجز في الميزانية وصعوبات كبيرة لمواجهة المتطلبات الاجتماعية في ظل الأوضاع المتردية.
طلبت تونس قرضا من صندوق النقد الدولي بملياري دولار فوضع صندوق النقد الدولي 4 شروط قاسية لمنح تونس هذا القرض:
الأول: إلغاء الدعم الذي تقدمه تونس للطبقات الفقيرة ومحدودي الدخل، والذي يشمل المواد الغذائية الأساسية والمحروقات والأدوية وغيرها من الجوانب التي تشكل دعامة أساسية للاستقرار الاجتماعي، على أن يتم ذلك الإلغاء على 3 سنوات.
الثاني: خصخصة الشركات الحكومية الوطنية التونسية وفق جدول محدد بحيث يتم بيعها للقطاع الخاص الداخلي والخارجي وتحرير الدولة من ثقل دعم هذه الشركات التي تزيد على 200 شركة وتوفر عشرات الآلاف من الوظائف للتونسيين وتسهم في تعزيز الاستقرار الاجتماعي.
الثالث: وقف عملية التوظيف في الجهاز الحكومي والتقليل من عدد الوظائف وتسريح جزء من العمالة الوطنية الموجودة في الوزارات والقطاع الحكومي لتخفيف فاتورة الرواتب وتمكين الدولة التونسية من سداد خدمة الدين والاستثمار بشكل أفضل لهذه الموارد في البنية التحتية وفي النشاط التنموي.
الرابع: إصلاح نظام التقاعد وتقليل الامتيازات التقاعدية وزيادة سن التقاعد إلى 65 سنة.
وإذا ما نظرنا إلى هذه الاشتراطات التي أسماها الرئيس قيس سعيد بالإملاءات نجدها تفضي بالضرورة إلى أزمة اجتماعية وربما إلى انتفاضات شعبية لأن الطبقات الفقيرة ومحدودي الدخل لا يمكنها أن تستغني عن الدعم الحكومي وهي تعتمد عليه أساسا لكي تستطيع تأمين الحد الأدنى من المقومات المعيشية، ومن هنا أعرب الرئيس سعيد عن رفضه الكامل لإملاءات صندوق النقد الدولي، مؤكدا أن هذه الإملاءات لن تمر، وخاصة أن الوضع التونسي من دون هذه الإملاءات متأزم، فإذا ما قبلت تونس بهذه الشروط فإن الوضع سيتأزم أكثر فأكثر. ويرى الرئيس التونسي أن الحل يكمن في الاعتماد على النفس وتعزيز التنمية الداخلية مع مباشرة إصلاحات اقتصادية ومالية وتحقيق العدالة الضريبية وإعادة إحياء وتنشيط القطاعات الاقتصادية الأساسية مثل السياحة والفوسفات والبترول والغاز وغير ذلك من الثروات التونسية التي تم الإضرار بها بعمق خلال العشرية السوداء التي دمرت الاقتصاد التونسي وأوصلته إلى هذه الحالة غير المسبوقة.
إن هذه الأزمة قد كشفت لنا جميعا أنه في حالة الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية، فإن صندوق النقد الدولي كمؤسسة مالية ربحية لا يهمها موضوع الاستقرار والسلم الاجتماعي للدول بقدر ما يهمها قدرة البلد الذي يقترض منه على سداد الدين في مواعيده مع الفوائد. وقد رأينا ورأى العالم أن الأغلبية الساحقة من الدول التي سايرت صندوق النقد الدولي في هذا السبيل كيف تحولت إلى بلدان مأزومة، ولعل ما أكده الرئيس التونسي قيس سعيد من ضرورة الاعتماد على النفس وفرض ضرائب على الشركات والثروات وإعادة الأموال المنهوبة والمهربة إلى البلد تشكل مفتاح الحل الاقتصادي كبداية لإعادة تحريك عجلة التنمية بدلا من الخضوع للإملاءات التي ستكون نتائجها خطيرة في حالة الموافقة عليها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك