تعتبر الدول العربية من دول العالم الثالث من حيث اعتماد اقتصادها على قطاع «الصناعات الاستخراجية» وتصدير المواد الأولية مما يعرضه لتقلبات الأسعار العالمية. يتسم هذا القطاع بكثافة رأس المال وعمالة ماهرة متخصصة قليلة وخلق فرص عمل في الخدمات المصاحبة لهذه الصناعة.
تمثل إيرادات القطاع ما بين 70% إلى 95% من إيرادات الدولة، كما يمثل نسبة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي. وفي الحالات التي تنجح الدولة في تنويع الصادرات فعادة ما ترتبط هذه الصادرات بالموارد الطبيعية، مثل النفط ومشتقاته أو «صناعات تحويلية» مدعومة بقطاع النفط مثل صناعة الألمنيوم والبتروكيماويات بالنسبة إلى الدول المصدرة للنفط والغاز.
وفق تقرير صندوق النقد العربي 2022، بدا قطاع الصناعة العربي بشقية الاستخراجي والتحويلي في التعافي بعد أزمة جائحة كوفيد-19. ارتفعت مساهمة الصناعات الاستخراجية في الناتج المحلي الإجمالي العربي إلى 22.9% في 2021 وبلغت الصادرات النفطية حوالي 441 مليار دولار، ونصيب الفرد من الناتج الصناعي 2287 دولارا (نصيب الفرد في سنغافورا مثلا 13,752 دولارا)، وتشكل القوى العاملة في القطاع الصناعي 22% من اجمالي القوى العاملة العربية وتتفاوت من 54% إلى 3.5%، تتركز معظمها في الصناعة التحويلية. أي ان تنويع الاقتصاد واستغلال الموارد الطبيعية في انتاج سلع نهائية يمثل المخرج لخلق فرص عمل ورفع الناتج المحلي وإمكانية تحسين مستوى المعيشة.
يرى التقرير انه بالرغم من التحسن في مؤشر الكفاءة الاقتصادية للإنتاج الصناعي (من 1.3 في 2020 إلى 1.5 في 2021) الا ان هناك حاجة إلى مواجهة التحديات وتبني استراتيجيات صناعية طويلة المدى تركز على رفع الإنتاجية والتنافسية في قطاع الصناعة التحويلية.
هناك مجالان للتحسين خصوصا لهدف خلق فرص عمل، الاول استكمال عمليات الاستكشاف في الثروات المعدنية العربية، وقد وضعت مثلا مصر والسعودية خططًا لهذه الغاية، والثاني الصناعات التحويلية التي تمثل عماد الاقتصاد الحديث لقدرتها على خلق فرص عمل. لماذا لم يتحقق النجاح في هذا المجال؟ قد يكون من أهم المعوقات عدم تطوير الشركات الصغيرة والمتوسطة ورفع قدرتها على المساهمة في خلق التنوع والشمولية في الاقتصاد. يقول التقرير إن هذه الشركات تعتبر حجر الأساس في استراتيجيات التنمية الطويلة الاجل التي اعتمدتها دول عربية كثيرة. من أهم هذه الصناعات بالنسبة لكثير من الدول العربية الصناعة الهيدروكربونية المشتقة من النفط الخام مثل التكرير والبتروكيماويات وصناعة الغاز الطبيعي المسال. تعتبر دول مجلس التعاون الدول الرائدة عربيا في هذه الصناعات، والمجال مازال في بدايته. والأمر الآخر هو عدم تجذر دور الحكومات في قيادة الاقتصاد نحو التنافسية والقدرة التصديرية.
وفق هذه المعطيات يعتبر التعاون العربي في مجال الاستثمار الصناعي مهما جدا. فقد بلغ اجمالي الاستثمارات الصناعية العربية (18 دولة) للفترة من 1974-2021 حوالي 8819 مليون دولار، تمثل 6.7% من اجمالي الاستثمارات الممولة من مؤسسات التمويل العربية، مقارنة بتمويل القطاعات الاخرى تعتبر هذه النسبة متواضعة. تعتمد الدول العربية على القطاع الخاص في الاستثمار الصناعي، من منطلق ان القطاع الخاص أكثر كفاءة في هذا المجال. وفق التقرير، فان التجارب تؤكد اهمية الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ووضع الاطر المؤسسية لنجاح هذه الشراكات، خصوصا في المجالات الاستراتيجية التي يشكل وجود الحكومة كشريك محرك وصمام أمان على المدى الطويل ويلعب دورا فاعلا وقياديا في تحقيق استقرار الأسعار خاصة في الصناعات الغذائية والدوائية وتكنولوجيا المعلومات.
بالإضافة إلى ذلك هناك عدد من القضايا التي تستحق إعطاءها أولوية في التنمية وخلق فرص عمل. من هذه القضايا انشاء مناطق ومدن صناعية وإقامة حاضنات للتنمية الصناعية، من أهدافها جذب الاستثمار الخارجي المباشر الذي يستثمر في مشاريع صناعية وليس مشاريع مالية سهلة الخروج، كما في بعض دول الخليج. بدأت بعض الدول العربية مثل مصر والسعودية وتونس والمغرب وغيرها في خلق ما يزيد على 250 منطقة صناعية، بعضها مناطق حرة، لكن اغلب هذه المناطق تقليدية تختلف عن تلك الموجودة في الدول المتقدمة، لذلك تفاوتت فاعليتها لعدة أسباب منها ارتفاع أسعار الكهرباء وضعف معالجة المشاكل البيئية بالإضافة إلى القيود القانونية والاجرائية الكثيرة في الحصول على الأراضي والخدمات وإنهاء المعاملات الضريبية، ناهيك عن المنافسة غير المتكافئة والاغراق الذي تتعرض له الصناعات الوطنية في مواجهة المنتجات الصناعية المستوردة.
معالجة مثل هذه المعوقات وفق صندوق النقد العربي تتطلب جهودا لمساعدة المستثمرين الصناعيين في مواجهة التحديات والصعوبات، وكذلك تحويل المناطق الصناعية الى مناطق صناعية ذكية وتقنية ومستدامة تجتمع فيها التكنولوجيات وتوفير بيئة يترابط فيها الإنتاج والبحث العلمي والتطوير وتوفير التمويل والخدمات الصناعية وكفاءة قوة العمل؛ وكذلك توفير الاراضي الصناعية وتيسير الخدمات بأسعار مدعومة مقابل التوظيف الوطني.
يخلق هذا الترابط بيئة متطورة للبحث العلمي والابتكار والتصميم والابداع العلمي والمعرفي والتقني ترفع القدرات التنافسية وزيادة الإنتاجية. يمكن في هذا الصدد الاستفادة من تجارب دول شرق آسيا، وكيف ان الحكومات لعبت دورا قياديا حصيفا في تهيئة البيئة المناسبة والمدعومة للصناعات وتمكينها من المنافسة العالمية لزيادة تصنيع المنتجات العالية التقنية ورفع المستوى التكنولوجي في مجالي الميكنة وتعزيز المعرفة التقنية. هناك بعض التجارب العربية مازالت في بداياتها فهل تنجح في خلق قطاع صناعي متقدم من دون ان يتطلب تحولا فكريا عن الليبرالية الجديدة في أخذ الحكومة دورا قياديا، بالإضافة إلى اصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية تدعم هذا التوجه وخصوصا تعزيز منظومات الابتكار والريادة ومحاربة الفساد ونشر المعلومات وتعزيز حرية الرأي.
يعتبر رفع القدرة التنافسية لاقتصادات الدول العربية أحد التحديات، إذ تعاني الصناعات العربية من ضعف حصتها من القيمة المضافة والصادرات مع تفاوت كبير فيما بين الدول العربية. يستلزم ذلك اهتماما خاصا من قيادات الدول العربية بتعزيز القدرة التنافسية في الصناعات الحديثة.
لتحقيق تنافسية أعلى للصـناعات العربية يوصى التقرير بالسعي إلى زيادة الإنتاج وتحسين نوعيته، والرفع من جودة المنتجات وتصميمها بما يتناسب مع المواصفات الدولية، والتركيز على المنتجات ذات القيمة المضافة العالية والمنتجات عالية التقنية، والحد من العقبات التي تواجه عمليات التصدير من خلال دعم ومساندة المؤسـسات المصدرة على اقتحام الأسواق الخارجية وتيسير وصول منتجاتها لتعزيز قدراتها التصـديرية وفتح أسواق خارجية جديدة.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك