خلال الفترة من 11 إلى 13 يوليو 2023 شاركت مجدداً في الملتقى الثالث عشر لمركز الخليج للأبحاث بجامعة كامبردج، وهو الملتقى الذي ينظمه المركز سنوياً منذ انطلاقته الأولى عام 2010 ويعد الملتقى حواراً أكاديمياً وفكرياً رفيع المستوى بين الباحثين والأكاديميين والخبراء المهتمين بكل قضايا منطقة الخليج العربي الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية سواء من أبناء المنطقة أو خارجها، بهدف تبادل وجهات النظر وتحديد أوجه الالتقاء والتباين بين تلك الآراء حول منطقة كانت –ولاتزال– أحد أهم مفاصل الأمن الإقليمي والأمن العالمي على حد سواء.
وبداية أود الإشارة إلى تجربتي مع ذلك المؤتمر الذي أحرص سنوياً على المشاركة فيه بورقة في أحد المحاور المعلنة إلا أنني قررت هذا العام أن أتقدم كمدير لإحدى ورش العمل وبتوفيق من الله فزت بإدارة تلك الورشة وكانت بعنوان «مستقبل مجلس التعاون لدول الخليج العربية كمؤسسة»، وواقع الأمر أن أسباباً كثيرة دفعتني إلى اختيار ذلك الموضوع ليس فقط لكوني تخصصت في موضوع الأمن الإقليمي ومجلس التعاون يعتبر أحد تنظيمات الأمن الإقليمي التي تضمنها الفصل الثامن ميثاق الأمم المتحدة ولكن لكون تجربة مجلس التعاون فريدة من نوعها كتنظيم يضم دولاً ست تربطها سمات مشتركة تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وكغيره من تنظيمات الأمن الإقليمي واجه المجلس تحديات وأدار أزمات كمؤسسة، كما أنه إطار جامع لمصالح وأهداف مشتركة نص عليها وبوضوح الميثاق المنشئ له، ربما كان أداء المجلس في بعض القطاعات يسير بوتيرة أسرع من غيرها وهذا أمر طبيعي، حيث إن المجلس يعمل في بيئة إقليمية وأخرى دولية بقدر ما بهما من فرص فإنهما تفرضان تحديات في الوقت ذاته، إلا أن الأمر المهم هو بقاء المجلس ذاته واستمراره كإطار جماعي يعكس هوية ومصالح دول الخليج العربي، ويعد ذلك مسألة استراتيجية في ظل تنامي أهمية تنظيمات الأمن الإقليمي في العالم من ناحية وزيادة حدة التنافس العالمي تجاه الخليج من ناحية ثانية، وندرة الدراسات التي تناولت تلك التجربة بشكل موضوعي من ناحية ثالثة.
ضمت ورشة العمل إحدى عشرة ورقة بحثية من دول المنطقة وخارجها تناولت أداء مجلس التعاون وخاصة على الصعيدين الاقتصادي والأمني، ثم علاقات المجلس تجاه اليمن والاتحاد الأوروبي والهند ومنظمة الآسيان، ومن دون الخوض في تفاصيل تلك الأوراق، فإنها عكست ثلاث ملاحظات الأولى: لم تخل الأوراق من تحيز، وهي مشكلة الباحثين كافة، بمعنى آخر أن مقدمي الأوراق سعوا لإبراز مصالح دولهم في منطقة الخليج العربي وهو أمر طبيعي يعكس تنامي أهمية المنطقة لدول العالم كافة، والثانية: وجود بعض المعلومات التي تطلبت التصويب وهو أمر له ما يبرره، حيث دأب الباحثون الغربيون على الاعتماد على مصادر باللغة الإنجليزية فقط وربما لا تتضمن الحقائق كاملة بما يعني الحاجة إلى المزيد من الدراسات العربية المترجمة التي تعكس واقع وخصوصية منطقة الخليج العربي التي دائماً ما يتم تناولها بحثياً ضمن هياكل أكبر للأمن الإقليمي، والثالثة: حرص بعض مقدمي الأوراق على إجراء مقارنات بين مجلس التعاون والتنظيمات الإقليمية الأخرى المماثلة والتي بها دروس مستفادة لدول الخليج العربي ومع أهميتها، فإن بها أوجه تماثل واختلاف بالطبع.
وكانت تلك الورشة إحدى ثلاث عشرة ورشة تم اختيارها من بين 60 مقترحاً تم تقديمها ، ضمت حوالي 300 باحث من 65 دولة، وتناولت قضايا منها التنمية المستدامة والتعليم العالي والهجرة والمرأة والتصنيع والثقافة وسياسات الخليج تجاه القرن الإفريقي، إلا أن الأمر اللافت والمهم هو أنه يسبق بدء عمل ورش العمل حفل افتتاح يضم مشاركين رفيعي المستوى، وهذا العام تحدث خلال الافتتاح السيد جاسم محمد البديوي الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية من خلال مشاركة مسجلة حدد فيها مواقف دول الخليج الجماعية تجاه التحولات الإقليمية والدولية الراهنة والدور السياسي و الإنساني تجاه بعض الأزمات ثم استمرار مجلس التعاون في دعم الأمن الإقليمي والعالمي، فضلاً عن مشاركة الأمير فيصل بن فرحان وزير خارجية المملكة العربية السعودية الذي أكد أولويات الأمن القومي لدول الخليج العربي وضرورة مواجهة التحديات بشكل جماعي واستمرار دول الخليج العربي في تأسيس الشراكات الدولية، بالإضافة إلى مشاركة الدكتورة أسمهان الوافي خبيرة في منظمة الفاو، التي قدمت عرضاً مهماً حول تحدي الأمن الغذائي في دول الخليج العربي، وكذلك الدكتور ديفيد كاردويل نائب رئيس جامعة كامبرج للتخطيط الاستراتيجي الذي أكد مجدداً أهمية المؤتمر كملتقى فكري وسط تحولات إقليمية ودولية مهمة.
وكان لافتاً أيضاً تقديم فريق مركز الخليج للأبحاث تحليلاً شاملاً للتطورات الإقليمية والعالمية الراهنة وتأثيرها على دول الخليج العربي خلال الجلسة الافتتاحية ذاتها.
ومن دون الخوض في المزيد من التفاصيل حول وقائع المؤتمر في تقديري أن قيمة مثل تلك المؤتمرات تتجاوز المفهوم العلمي الرصين للنقاش ليعد بمثابة جسر فكري دولي، حيث يكون الباحثون في حالة تنافسية من حيث القدرة على عرض الأفكار وتسويقها، صحيح أنها تظل مرتبطة بمصالح كل طرف وقناعته والصورة الذهنية التي كونها استناداً إلى مصادر معلومات محددة، ولكن أهمية تلك المؤتمرات في تصوري تتمثل في ثلاثة أمور أولها: إمكانية تصحيح بعض المعلومات والمفاهيم المغلوطة التي ساعدت ثورة الاتصالات الحديثة في انتشارها على نطاق واسع، وثانيها: ارتباط العديد من مشاركي مراكز الدراسات بدوائر صنع القرار في الدول الغربية بما يعنيه ذلك من أهمية تقديم تصورات علمية وواقعية حول القضايا محل النقاش، وثالثها: حث مركز الخليج المشاركين على إصدار وقائع ورش العمل في إصدارات علمية تحوي بين صفحاتها آراء مختلفة وهو ما يكرس لحوار علمي حقيقي بين الباحثين من مختلف أنحاء العالم بعيداً عن مصادر المعلومات غير الموثوقة.
ورغم محدودية مشاركة أبناء منطقة الخليج العربي مقارنة بباحثي مناطق العالم الأخرى، فإن الملتقى لا يزال منبراً فكرياً مهما، بل يعد أحد مصادر القوة الناعمة لدول الخليج العربي تجاه مراكز الفكر الأخرى المماثلة في العالم، بل إنه يعد فرصة مهمة لأن يكون للدراسات والبحوث التي يتم إعدادها من المنطقة بعد دولي في ظل معايير محددة يتم الأخذ بها في تقييم الدراسات الأكاديمية، بالإضافة إلى شمول المؤتمر رؤى رسمية وأكاديمية عن منطقة الخليج العربي.
وأخيراً وليس آخراً ومع أهمية المشاركات البحثية، فإن تنظيم المؤتمر كان نتاج جهد كبير ومتميز لفريق مركز الخليج للأبحاث الذين تواصلوا مع المشاركين على مدار أشهر متواصلة حتى خلال أيام عيد الأضحى المبارك من أجل الاطمئنان على إتمام جميع الأمور اللوجيتسية.
{ مدير برنامج الدراسات
الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك