في ظل نظام عالمي متعدد الأقطاب بشكل متزايد، فإن الدور الذي ستلعبه «الهند»، في المستقبل الجيوسياسي العالمي، كان من وجهة نظر «أليسا آيرس»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، وراء خروج الكثير من «التوقعات»، في هذا الشأن من قبل المعلقين في الشؤون الدولية. وفي عهد «ناريندرا مودي» رئيس الوزراء الحالي وسّعت «نيودلهي»، إلى حد كبير، علاقاتها الدولية في المجالات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والأمنية. ومع ذلك لا يزال المراقبون غير متأكدين من مدى انفتاحها على العلاقات الرسمية مع الدول الأخرى. وأشارت «آيرس»، إلى أنه على الرغم من كونها «أكبر ديمقراطية في العالم، وأكثرها تنوعًا»، فقد امتنعت عن «الترويج لهذه القيم في الخارج»، والتزمت بسياسة عدم الانحياز الاستراتيجي، فيما يتعلق بتنافس القوى العظمى العالمية.
وفي السياق ذاته، أشار «جون ألترمان»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، إلى أن توخي «الهند» الحذر من التورط في منافسة القوى العظمى للحفاظ على علاقات مع جميع الدول الرئيسية من أجل خدمة مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية على أفضل وجه؛ هو ما يُمكن أن يُمثل «نموذجا مؤثرا»، لدول الشرق الأوسط، وخاصة الخليجية لتقتدي به في سياساتها الخارجية. وأوضح «ستيفن كوك»، في مجلة «فورين بوليسي» أن تأثيرها على دول المنطقة، عبر الروابط الاقتصادية والسياسية والثقافية والدفاعية المزدهرة، يعد «مثالا قويا»، بالفعل، مما يعني أنها أضحت «قوة شرق أوسطية» في حد ذاتها، وعليه، فقد أصبح لزاما على صانعي السياسة الغربيين النظر إلى «الحضور القوي» لها في المنطقة «بجدية».
وفي واقع الأمر، فإن مكانتها -التي طالما حافظت عليها كقوة غير منحازة- لم تحل دون إقامتها علاقات مثمرة مع دول العالم المختلفة. ومع ما يلقاه «مودي»، من ترحيب في كل من «المنتديات الغربية»، مثل «مجموعة الدول الصناعية السبع»، وكذلك تجمعات القادة غير الغربيين، مثل قادة «مجموعة دول البريكس»؛ فإن «نيودلهي»، بالتالي تمتلك جاذبية لدى كلا التجمعين.
وتأكيدا لهذا التحليل، سعت الدول الغربية جاهدة على نحو واضح لكسب ود «نيودلهي». وسجلت شبكة «بي بي سي»، كيف سعى الرئيس الأمريكي «جو بايدن»، إلى إقامة علاقات أمريكية هندية «قوية». وأضاف «إدوارد لوس»، في صحيفة «فاينانشال تايمز»، أن إعداد «واشنطن»، مؤخرًا حفل زيارة دولة «فخم» لمودي؛ «بيّن أن توددها لنيودلهي تنامى إلى مستويات جديدة». ومن بين الدول الأخرى التي تبسط السجادة الحمراء، أوضح «جون ريد»، في صحيفة «فاينانشيال تايمز»، كيف وجه الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، الدعوة إلى رئيس الوزراء الهندي، ليكون «ضيف شرف» في باريس لحضور «موكب يوم الباستيل»، مؤخرا.
وبعيدًا عن إنجازاتها الدبلوماسية، فقد عززت أيضًا من مصالحها الاقتصادية والأمنية في جميع أنحاء العالم. وكتب «ديريك غروسمان»، من «مؤسسة راند»، أنها «تتحول بسرعة إلى لاعب استراتيجي في جنوب شرق آسيا»، عبر «موجة من التحرك الدبلوماسي الإقليمي»؛ لمواجهة صعود الصين في المنطقة. وفي إفريقيا، سلطت وكالة «بلومبرج»، الضوء على أنها هي الآن ثاني أكبر مزود للائتمان المالي في القارة بعد «بكين»، حيث قدمت 12 مليار دولار إلى 42 دولة منذ عام 2013.
وبينما أشار «كوك»، إلى أن المسؤولين الأمريكيين، «مشغولون بكل خطوة دبلوماسية»، تُقدم عليها الصين في الشأن العالمي، وينظرون إلى ما تُرسيه من استثمارات وعلاقات في الشرق الأوسط «بريبة»، فقد أكد أن «البيت الأبيض»، يتجاهل حاليًا «ظهور الهند كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط»، وهي ديناميكية وصفها بأنها «واحدة من أكثر التطورات الجيوسياسية إثارة للاهتمام في المنطقة منذ سنوات».
وفي الوقت الذي تأسست فيه العلاقات التاريخية بين دول الخليج والهند على مدى قرون من التعاون التجاري، وبعد أن «حافظت الأخيرة إلى حد كبير على مسافة بينها وبين الشرق الأوسط»، خلال الحرب الباردة؛ بسبب التزامها عدم الانحياز؛ أوضح «جوناثان هارفي»، في موقع «العربي الجديد»، أنه منذ تولي «مودي» السلطة عام 2014، سعت بلاده «إلى تعميق علاقاتها التجارية والاستراتيجية مع المنطقة». وفيما يتعلق بدول الخليج على وجه الخصوص، أشار الباحث إلى أن «نيودلهي»، تعتبر دائمًا هذه الدول، «شريكًا اقتصاديًا أساسيًا». وفي تطور للديناميكيات السابقة، أوضح «سي راجا موهان»، من «جامعة سنغافورة الوطنية»، أن ارتباطها الاقتصادي بالخليج، لم يعد يقتصر على «شراء النفط والحصول على التحويلات من العمالة»، حيث أصبحت الآن أكثر اهتمامًا «بجذب رأس المال الخليجي إلى اقتصادها بشكل كبير».
وفي واقع الأمر، فإن أهدافها تلتقي بأرضية مشتركة مع مصالح دول الخليج نفسها. وأوضح «كوك»، أن أعضاء «مجلس التعاون الخليجي»، يسعون بقوة إلى طرق لتعزيز العلاقات مع الهند في تغير مهم على الصعيد السياسي، كما هو الحال بالنسبة لنيودلهي التي تسعى بجدية لجذب اقتصادي للخليج».
وفي حالة الإمارات، على سبيل المثال، فقد التزمت باستثمارات تربو على 100 مليار دولار في الزراعة والتصنيع والبنية التحتية الهندية، كما أن «اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة»، المبرمة في مايو 2022 مع «الهند»، والتي سهلت بالفعل زيادة بنسبة 7% في التجارة غير النفطية بين كلا البلدين، لتصل إلى 45 مليار دولار؛ تهدف بالأساس إلى زيادة التجارة الثنائية إلى إجمالي 250 مليار دولار بحلول عام 2030. وفي المجال الجيوسياسي، أكد «كوك»، أن عضويتهما المشتركة في مجموعة «آي2 يو2»، التي تقودها «الولايات المتحدة»، قد سمحت لهما «بالاستفادة من المعرفة التكنولوجية المشتركة، ورأس المال الخاص لمعالجة الطاقة البديلة، ومجالات الزراعة والتجارة، وتطوير البنية التحتية».
وبالنسبة للسعودية، باعتبارها ثاني أكبر مزود للنفط الخام للهند، ليس من المستغرب أن العلاقات حاليًا مدعومة بأمن الطاقة. وكجزء من توجهات انتقال الطاقة العالمية المستمرة إلى مصادر طاقة أنظف، أشار «كوك»، إلى حرص «المملكة»، على تعزيز علاقتها الاقتصادية الحالية من خلال إضافة مصادر طاقة متجددة إلى حصيلة ثرواتها. وبعيدًا عن مجال الطاقة، ومع وصول الاستثمارات السعودية في الاقتصاد الهندي إلى 3 مليارات دولار سنويًا، تم العمل على تنفيذ مشروع لمد كابلات بحرية لنقل الكهرباء يربط الساحل الغربي الهندي بالسعودية عبر بحر العرب.
وفي مجال الأمن الإقليمي، أحرزت تقدمًا أيضًا. وعلى الرغم من أن «موهان»، أصر على أنها مثلها مثل الصين، «ليست في وضع يمكنها من أن تحل محل «الولايات المتحدة»، في الشرق الأوسط»، كضامن أمني، فقد أوضح أنها مع ذلك تريد «الانخراط بصورة أكبر في مضمار السياسة الأمنية بالمنطقة»، مشيرًا إلى كيفية نشر سفنها الآن بانتظام على أسس عملياتية في بحر العرب، بالإضافة إلى أنها صعدت من حجم مشاركتها العسكرية مع الدول العربية».
وخارج نطاق منطقة الخليج، أقامت «الهند»، أيضًا علاقات ودية مع «إسرائيل». وفي هذا الصدد، أوضح «كوك»، أن علاقاتها معها ربما تكون الأكثر تطورًا في الشرق الأوسط، حيث إنه منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية الرسمية في عام 1992، قام كلا البلدين بتطوير حجم التعاون السياسي والاقتصادي والتكنولوجي والأمني الثنائي. وفي الوقت الحالي، تجري البلدان محادثات لتأسيس اتفاقية تجارة حرة. وتُظهر بيانات «معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام»، أنه بين عامي 2018 و2022، كانت «نيودلهي»، المتلقي الأول للصادرات الدفاعية الإسرائيلية، بإجمالي 37% من إجمالي هذه الصادرات. وعلى الرغم من أن «هارفي»، قد وصف هذا بأنه «تحالف وثيق»، إلا أن «كوك»، رأى أن العلاقات الثنائية بينهما «معقدة»؛ بسبب دعم الهند «الثابت» السابق للقضية الفلسطينية»، ناهيك عن أن احتلال إسرائيل للضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة، أثار مقارنات بماضي الهند كجزء من الإمبراطورية البريطانية.
وفي نفس الوقت الذي تمتلك فيه «نيودلهي»، علاقات متقدمة مع إسرائيل، أشار «كوك»، إلى كيفية استفادتها أيضًا من العلاقات الودية مع «إيران». فيما أشار «هارفي»، إلى كيف نمت العلاقات بينها وبين «القاهرة»، بشكل متزايد، مع قيام «مودي»، والرئيس المصري «عبدالفتاح السيسي»، مؤخرًا بزيارات شخصية لكل من عاصمتي البلدين.
وفي مقابل ذلك، فإن دورها المتنامي، الذي لا يمكن إنكاره في المجالات السياسية، والاقتصادية، والأمنية في الشرق الأوسط، يمثل «معضلة سياسية»، للقوى العظمى الأخرى المشاركة أيضًا في الشؤون الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية في المنطقة. ومع تمتع «الصين»، بوجود متزايد في المنطقة، أشار «كوك»، إلى اعتقاد صانعي السياسة الغربيين أنه سيكون من «المغري» النظر إلى «نيودلهي»، على أنها ذات «ثقل موازن إضافي لبكين في الشرق الأوسط». ومع ذلك، أشار إلى أنه «من غير المرجح أن تسعى لأن تكون الشريك الاستراتيجي في المنطقة»؛ في ضوء أن موقفها التاريخي بعدم الانحياز، يعني أن الشراكة الوثيقة مع «الولايات المتحدة» في المنطقة، «لن تكون خيارًا سهلاً طبيعيًا لها».
علاوة على ذلك، فإن الدور الهندي المتنامي في المنطقة، لن يكون بالضرورة غير مرحب به من جانب «الولايات المتحدة»، وحلفائها، وخاصة مع تأكيد «كوك»، أنه إذا ما أراد شركاء «واشنطن» في الشرق الأوسط على المدى الطويل البحث عن بديل لها، سيُنظر بالتأكيد إلى «نيودلهي»، على أنها مرشح محتمل أفضل من «بكين»، أو «موسكو»، في هذا الصدد.
ومع توسيعها بشكل كبير لعلاقاتها مع الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، لا سيما في المجالات الاقتصادية، والسياسية، والأمنية، أشار «كوك»، إلى أن هذا «التطور في السياسة الخارجية من «نيودلهي»، «يعكس ملامح النظام الدولي المتغير». ومع ارتباط دول الخليج بها من خلال علاقات تجارية وثقافية تاريخية وحرصهما بشكل واضح على توسيع العلاقات الاقتصادية من خلال الاستثمارات المتبادلة، والاتفاقيات طويلة الأجل بشأن السياسة المالية والتجارية، خلص أيضًا إلى أن زيادة التقارب مع الهند، يؤكد كيف أن دول الخليج تسعى أيضًا إلى «الاستفادة من التعددية القطبية الجديدة» للعلاقات الدولية.
على العموم، أشار «كوك»، إلى أنه ليس هناك ما يمكن فعله للتأثير على الدور الهندي الإقليمي المتنامي أو تقييده، وعليه، فقد حث صناع السياسة الغربيين على «تخفيف» واقع توقعاتهم، «حول ما يمكن أن يقدمه توسع الهند في حجم علاقاتها الاقتصادية والأمنية مع الشرق الأوسط في المقابل، مشيرًا إلى أنه «من غير المحتمل لنيودلهي أن تتوافق مع «واشنطن»، بشأن القضايا الإقليمية، أو على العكس من ذلك «تقوض دورها»، كما فعلت «بكين»، و«موسكو».
وعليه، خلص «هارفي»، إلى أنه في حين أن الهند «قد تفضل العمل مع «الولايات المتحدة»، على «الصين»، في الشرق الأوسط، فمن المهم للمسؤولين الغربيين أن يقبلوا أنه «لا يزال لديها استقلاليتها ونهجها الخاص حيال المنطقة»، وهو نهج من المرجح أن يعزز العلاقات المباشرة مع دول الشرق الأوسط، مثل أعضاء مجلس التعاون الخليجي؛ لتعزيز التجارة الثنائية، والاستثمارات لمساعدة الاقتصاد المحلي الهندي على الاستمرار في نموه.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك