ليس عبثًا أن تكون أول آية من القرآن الكريم تنزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم هي (اقرأ)، فهذه الدعوة من خالق الأكوان سبحانه وتعالى للبشرية لدخول عصر جديد من العلم والمعرفة والتفكر في هذا الكون وألغازه وعناصره، فالقراءة تحرر العقول المنغلقة في كل عصر وزمان.
ثم تأتي سورة أخرى يقسم فيها سبحانه وتعالى بالقلم، وتسمى به، وهي سورة القلم، إذ يقول سبحانه في أول آية بها: «ن، وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ»، وهذا يعني أن القرآن الكريم حدد المنهجيات الموضوعية التي عندما يستخدمها الإنسان بطريقة موضوعية ممنهجة يمكنه أن يتحرر من الأساطير والخرافات والأوهام والشعوذات، وهما (القراءة والقلم)، فبهذه الأدوات وما يمكن أن يأتي من بعدهما هي تلك الأدوات التي تبني الحضارات والفكر البشري بمختلف علومه وأبعاده، ليس ذلك فحسب وإنما هي التي تحدد استقرار الأمم والإنسان على جميع المستويات.
ثم يأتي النهج القرآني على هذه المنظومة في العديد من الآيات الكريمة، مثل الآيات التالية:
* «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (المجادلة: 11).
* «هَلْ يسْتَوِي الَّذِينَ يعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يعْلَمُونَ» (الزمر: 9).
ليس ذلك فحسب، وإنما في آيات كثيرة يدعو الله سبحانه وتعالى الإنسان – دعوة صريحة وواضحة – لاستخدام عقله والتحرر من الأوهام والأساطير والخرافات عند النظر في الكون، فيقول تعالى:
* «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيفَ بَدَأَ الْخَلْقَ» (العنكبوت: 20).
* «قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ» (يونس: 101).
ثم تأتي الأحاديث النبوية الشريفة لتؤكد هذا المعنى، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
«منْ سَلَكَ طَريقًا يَبْتَغِي فِيهِ علْمًا سهَّل اللَّه لَه طَريقًا إِلَى الجنةِ، وَإنَّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطالب الْعِلْمِ رِضًا بِما يَصْنَعُ، وَإنَّ الْعالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ منْ في السَّمَواتِ ومنْ فِي الأرْضِ حتَّى الحِيتانُ في الماءِ، وفَضْلُ الْعَالِم عَلَى الْعابِدِ كَفَضْلِ الْقَمر عَلى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وإنَّ الْعُلَماءَ وَرَثَةُ الأنْبِياءِ وإنَّ الأنْبِياءَ لَمْ يُورِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا وإنَّما ورَّثُوا الْعِلْمَ، فَمنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحظٍّ وَافِرٍ» رواهُ أَبُو داود والترمذيُّ.
وربما هنا يطرح سؤال مهم، لماذا أرادنا الله سبحانه أن نفكر؟ لماذا استثنى الإنسان عن بقية الكائنات الحية فخلق للبشر عقولاً لتفكر؟
مبدئيًا، يمكننا أن نقول (أن نفكر) فهذا أمر حتمي، فبالتفكير يستطيع الإنسان أن يضع الحلول للمشاكل والأزمات الموجودة في الحياة، وبالتفكير يمكنه معرفة دهاليز الحياة، وبالتفكير يمكن أن نضع القوانين والأنظمة الضرورية لتبسيط أمور الحياة، وبالتفكير نتحرر من الوهم والخرافات وسيطرة الأفكار والاطروحات التي تتحكم في عقول البشر، لذلك فإن القرآن الكريم لا يضع العقل والتفكير في مرتبة دونية أو ترفيه وإنما يطالب الإنسان بالتفكير والتفكر من أجل تحقيق أمور عدة، منها:
النظر إلى النفس والأشياء التي تحيط به: في آيات كثيرة يدعو فيها القرآن الكريم الإنسان إلى النظر في نفسه، وتركيب جسمه، وكيفية تكوينه وخلقه من حيوان منوي وبيوضة، فيدعو إلى الفحص والتأمل والروية والتبصر بحقائق الوجود والخلق، ففي سورة الذاريات – الآية 21 يقول تعالى «وفي أنفسكم أفلا تبصرون».
ليس ذلك فحسب وإنما يدعو القرآن الكريم الإنسان تارة إلى النظر في طعامه بهدف أن يتعرف إلى الكيفية التي خلق منه هذا الطعام سواء كان من نباتات تزرع أو من ماشية تربى وتؤكل، مثل الأغنام والبقر والجمال وما إلى ذلك، ففي سورة عبس – الآية 24 يقول تعالى «فلينظر الإنسان إلى طعامه»، وتارة إلى الكون.
النظر إلى الفضاء الخارجي والأكوان: في آيات كثيرة يدعو فيها الله سبحانه إلى التفكر في هذا الكون الفسيح والأرض والشمس والقمر وكل ما يحيط بالإنسان من أجرام سماوية وكواكب ونجوم وما إلى ذلك، فمثلاً يقول تعالى في سورة آل عمران – الآية 190 191 «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزول هذه الآيات (لقد نزلت عليّ الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)، وحتى هذه يدعو فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتفكر والتدبر.
التحرر من التحكم البشري: في دراسة بعنوان (الإسلام وثقافة تحرير العقل) للأستاذ يسري عبدالغني عبدالله، يقول فيها: لقد عاب الإسلام على أسرى التقليد إعراضهم عن الحق الذي جاء به أنبياء الله، ورسله، وجمودهم على اتِّباع ما وجدوا عليه آباءهم، وأجدادهم، وهم إذ يرتكبون الفواحش باسم الدين، فهم يفعلون ذلك تعصُّبًا للجمود والتبعية العمياء المخالفة للعقل والمنطق السليم. قال تعالى في سورة المائدة – الآية 104 «وإذا قِيْلَ لهم تَعالَوا إلى ما أنزل الله، وإلى الرَّسول، قالوا حسبُنا ما وجدنا عليه آباءنا أَوْ لَوْ كان آباؤُهم لا يَعْلَمُون شيئًا ولا يَهْتَدُون»، فهؤلاء النفر من النَّاس، إذا قيل لهم اتَّبعوا منهج ما أنزل الله، منهج الهدى والرَّشاد والتفكير والتعقل، قالوا بكل بساطة ومن غير تفكير: «بل نتَّبع ما ألفينا عليه آباءنا»، حتى لو كان هؤلاء الآباء لا يعقلون شيئًا.
إنَّ التقليد الأعمى أكبر شرٍّ يُبتلى به الأفراد والجماعات، لأنَّه يُميت مواهب الفكر والإبداع والابتكار، ويقف حجر عثرة في طريق النظر الواعي، والتفكير السليم، والتطور الحضاري، فهو يجمِّد قدرات الإنسان الفكرية، وطاقاته الإبداعية، ويجعلها راكدة، آسنة غير متحرِّكة أو متطوِّرة. إنَّ التقليد الأعمى يجعل الإنسان لا يميِّز بين الحق والباطل، ولا بين الصواب والخطأ، ولا يفرِّق بين التقليد في الخير والتقليد في الشر، ويحمل أهله على الإعراض عن الحق، ومعاداة أهله.
والتقليد الأعمى يدفعهم دفعًا إلى التعصُّب الجماعي لحماية المذاهب والأفكار الموروثة، والإبقاء عليها، ومعارضة كل إصلاح جديد يخالفها أو ينتقص من قداستها، حتى لو كان هذا الإصلاح أساسيًّا وجوهريًّا لخير الناس وصالحهم.
الدعوة إلى الاستقلال الفكري: كما يدعو القرآن الكريم إلى التحرر من سلطة البشر، فإنه يدعو أيضًا إلى الاستقلال والتحرر الفكري، فليس من الحكمة الانقياد وراء تفكير إنسان لمجرد أنه فكر وقال لنا «هذا هو التفكير الصحيح»، فالقرآن الكريم يتعب على مثل هذه النوعية من البشر فيقول في سورة الملك – الآية 10 على لسان مثل هؤلاء «لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ»، وفي سورة الأعراف – الآية 179 يقول تعالى «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ».
فالتحرر الفكري ليس أمرًا كماليًا في الإسلام والقرآن الكريم، بل هو أمر حيوي وشيء أساسي، ومن الأمور الضرورية التي لا يمكن للمسلم أن يكون إسلامه مقبولاً من ناحية العقيدة إلا بالاعتراف بها، بل هو أول لوازم المدلول الأولى لكلمة الشهادة التي تنزع الصبغة الإلهية عن جميع المخلوقات، ويرجع إلى مبدأ إلغاء أفضلية شخص على آخر وتفوقه عليه بغير الوسائل العادية والأسباب الطبيعية. إن المتتبع لنصوص الإسلام وتشريعاته يصل إلى درجة اليقين أن هذا الطابع سار فيها سريان الدم في الجسد والماء في الأغصان. فالإنسان هو المسؤول عن نفسه، مسؤول عن أفكاره وقرارته، ففي سورة القيامة يقول تعالى «بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ». ففي هذه الآيات أعطى الله سبحانه وتعالى للإنسان كشخص مسؤول عن تصرفاته وتفكيره واختياراته قيمة واقعية كبرى، فقد جعله رقيبًا على نفسه وتفكيره وقراراته يتحمل تبعات عمله وحده، ولا ينفعه إقناع غيره بحسن سلوكه متى كان ذلك مخالفًا للواقع ولو استطاع ستر نفسه بضباب المعاذير الواهية.
تبني المنهج التحليلي في حل المشكلات والأزمات: ويمكن ملاحظة ذلك في الكثير من المواقف التي مرت على الرسل والأنبياء، وربما أشهرها قصة سيدنا يوسف عليه السلام وحلم الملك والأزمة الاقتصادية التي كادت تعصف بمصر والدول التي من حولها، فلم يكتف يوسف عليه السلام بتفسير الحلم لرسول الملك، وإنما قام بتأطير المنهج التحليلي في تفسير الحلم، ووضع المنهج الأساسي لكيفية إدارة الأزمة الاقتصادية، ووضع كل الحلول الناجعة لإدارة الأزمة، وبعد أن تمت تبرئته، طلب من الملك أن يقوم هو بنفسه بتنفيذ الحلول التي وضعها لإدارة تلك الأزمة، منهجية متكاملة يدعو فيها الله سبحانه الإنسان للتفكر والتدبر في هذه النوعية من المنهجيات لإدارة الأزمات.
تبني المناهج القيادية في الإدارة: لا شك أنه عندما نتذكر المناهج القيادية يمكننا أن نتذكر الكثير من القصص والحكايات التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، ومن أشهرها حكاية سيدنا سليمان عليه السلام وكيفية تعامله مع الهدهد والسيدة بلقيس، وكذلك ذو القرنين وكيفية إدارة الوضع عندما كان يجوب العالم، وربما هذا سنخصص له مقالا آخر.
وفي الختام، يمكننا أن نقول إن القرآن الكريم لم يضع الأقفال على العقول وحجرها عن التفكير، وإنما فتح كل تلك الأقفال ومنح العقل وظيفته التي هي القدرة على التفكير من تحقيق أهداف كثيرة ذكرنا هنا بعضها. فالقرآن الكريم حافل بالكثير من تلك الأفكار والحقائق التي تدعو إلى التفكير والتأمل، لذلك يمكننا أن نقرأ ونفكر ونتدبر.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك