تعددت في الفترة الأخيرة مظاهر الإساءة للرموز الإسلامية، ليس فقط في عدد من الدول الأوروبية، مثل حرق المصحف الشريف في السويد، ومقتل الشاب «نائل»، ذي الأصول الجزائرية بسلاح شرطي فرنسي؛ ولكن أيضًا صدور تصريحات مسيئة للإسلام من قبل مسؤولين في حزب «بهارتيا جاناثا»، الحاكم في الهند؛ وذلك برغم أن الجاليات الإسلامية قد غدت تمثل «ثقلا كبيرا»، في المجتمعات الأوروبية، وبرغم أن عدد المسلمين في الهند يبلغ (195 مليون نسمة بنسبة نحو 11% من السكان)، بما يتجاوز عددهم في مصر أكبر دولة عربية من حيث السكان.
ولا شك أن هذه المظاهر تمثل «انتهاكًا صريحًا»، لحقوق الإنسان الذي تلتزم بمواثيقه تلك الدول التي تقع فيها هذه الانتهاكات، كما تناقض قيم التسامح، والتعايش السلمي بين الأعراق والديانات المختلفة في المجتمع الواحد، كما تمثل انتكاسة للحضارة الغربية، فيما لا يمكن تفسيرها استنادًا إلى الحق في حرية التعبير؛ الأمر الذي يطرح سؤالاً، هو لماذا تحدث هذه الصور من الإساءات في تلك الدول، بينما تُجرم في الوقت نفسه، أي صورة أو انتقاد لإسرائيل بسبب انتهاكاتها لحقوق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وتعتبرها معاداة للسامية ينبغي مقاضاتها.
والغريب في الأمر أيضا، أن الدول الأوروبية في تناولها لهذه الأحداث، قد استندت إلى مفاهيم مغلوطة، مثل الحفاظ على الثقافة العلمانية، والرغبة في الدفاع عن الحرية، وتذليل العوائق الدينية والثقافية التي تحول دون اندماج الأقلية المسلمة في المجتمع الأوروبي، وهي الأسباب التي أثبتت عدم صحتها، بل إن هذه الحجج قد كشفت عن إشكاليات حقيقية، حيث إن هذه الشعوب في كفاحها نحو الحرية وتبنيها للعلمانية في ظل الدولة القومية الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية، التي أنهت على مفهوم القومية العنصرية أو القومية المتطرفة؛ قد تبنت مبادئ «الحيادية»، في تعاملها مع مواطنيها من دون الالتفات إلى هويات عرقية، أو دينية، أو انتماءات سياسية، ودعمت «قيما»، مثل الحرية، والعدالة، وقبول التنوع، والاختلاف؛ وبالتالي، فإن من يرى في الرموز الإسلامية اليوم مخالفة للروح الأوروبية، فهو ينقلب على مفاهيم التنوير التي تبنتها هذه الدول، ووقع في إشكالية إنكارها، والتي تفرض احترام التعددية، والمعاملة العادلة للأقليات الدينية والعرقية.
وفي واقع الأمر، فإن تكرار مشاهد الاعتداء على الرموز الإسلامية، يعبر عن انتشار ظاهرة «الإسلاموفوبيا»، التي أخذ «الاتحاد الأوروبي»، يبرزها في تقاريره السنوية منذ عام 2016، حين بدأ يرصد هذه الظاهرة، ذلك لأنها باتت تلعب دورًا مهمًا في سياسات العديد من الدول الأوروبية التي تضم أقليات مسلمة، وتعززت مع أزمات اللاجئين، وأصبحت كخطاب وممارسة تزدري الإسلام والمسلمين والرموز الدينية الإسلامية، وقد تنوعت حوادثها ما بين تمييز، وعنصرية، واستفزاز، وتحريض على الكراهية، والإهانة، والتحرش المعنوي، والاعتداء الجسدي. وتستأثر «فرنسا»، وحدها بمعظم حالاتها، وأغلبها وقع ضد النساء، وكثير منها يقع في المؤسسات التعليمية، ومن بينها حوادث حرق المصحف في الفضاء العام، أو ما يتصل بالحجاب، ورسائل التهديد التي ترد إلى المساجد.
ومن المعلوم، أن هذه الحالات تجري في مجتمعات يفترض أنها تبنت نماذج تؤسس لقبول الاختلاف وتنظيمه على المستوى السياسي من خلال آليات ديمقراطية، ولكنها تتسع وتأخذ شكل الأزمة مع صعود الخطاب الديني، ووصول اليمين إلى السلطة، حتى غدت «الإسلاموفوبيا»، مادة تخضع للاستعمال والتوظيف، وتهدد بأزمة مجتمعية في أوروبا. وعلى سبيل المثال، نشير هنا إلى خطاب رئيسة الوزراء الإيطالية «جورجيا ميلوني»، التي تقود اليوم ثالث أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، وحزبها له جذور فاشية، والتي أكدت في حملتها الانتخابية محاربة «الهجرة والأسلمة»، فضلا عن خطاب «فيكتور أدريان»، في المجر، الذي يرى أن الإسلام ليس جزءًا من أوروبا، ولن يكون في المستقبل، بل إن اللاجئين في نظره غزاة، فيما تفوقت «مارين لوبن»، الخصم السياسي من اليمين المتطرف على الرئيس الفرنسي «ماكرون» في استطلاعات الرأي.
وبشكل عام، نجد أنه في الدول الأوروبية صعدت أحزاب يمينية متطرفة بصيغات مختلفة، فهناك أحزاب قومية متعطشة لأمجاد الماضي، وأخرى شعبوية، وثالثة محافظة متشددة، ونجد هذا الصعود في «إيطاليا، واليونان، وإسبانيا، وفنلندا، والسويد، وبولندا، والمجر، وألمانيا، وهولندا، والدنمارك». وإضافة إلى صعود اليمين المتطرف وخطابه المعادي للهجرة والأقليات الإسلامية في أوروبا، فقد استعار العديد من السياسيين البارزين في السنوات الأخيرة بعض شعاراتهم ومواقفهم؛ بهدف كسب أصواتهم في سياق المنافسة الانتخابية.
وفيما يهدد تعدد حوادث الاعتداء على الرموز والأقليات الإسلامية، نسق العلاقات القوية بين أوروبا والعالم الإسلامي، وما تنطوي عليه هذه العلاقات من مصالح متبادلة، لا يستطيع أي من الطرفين التضحية بها؛ فإنه يهيئ الظروف دوليًا لاتخاذ قرارات تجرم «الإسلاموفوبيا»، وحوادث الاعتداء على المقدسات الإسلامية، ووضعها في مصاف معاداة السامية على المستوى الدولي، ليصدر عن «الأمم المتحدة»، ومن ثمّ، الدول الأعضاء، قرارات ذات صلة تطول هذه التصرفات، وتشمل أيضًا ممارسات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ذلك أن التغاضي عن جرائم الكراهية، والاستفزازات ضد المسلمين، يؤدي إلى التطرف والعنف المضاد، ويهدد السلم المجتمعي والدولي.
من ناحية أخرى، يبقى واضحًا أن نبذ الكراهية والتطرف، وقبول الاختلاف، والتسامح، والعيش المشترك، هي مسؤولية ممتدة تبدأ من البيئة الأولى من التنشئة عبر مؤسساتها المختلفة؛ الأسرة، المدرسة، المؤسسة الدينية، المجتمع المدني، مؤسسة العمل، وخاصة عند الإشارة إلى أن من قام بحرق نسخة من القرآن الكريم في «السويد»، بعد صلاة عيد الأضحى، هو شخص من أصول عراقية (سلوان مومكا)؛ ما يعني أن هناك خللا في إدراك مثل هذه المفاهيم لديه.
وفي رد فعل على الحادث، صدرت إدانات من كل الدول العربية والإسلامية، ومنظمات العالم الإسلامي، كالأزهر الشريف، ومنظمة التعاون الإسلامي، وجامعة الدول العربية، ومجلس التعاون الخليجي، والاتحادات والروابط الإسلامية، فيما استدعت حكومات السعودية، والإمارات، والأردن، سفراء السويد لديها، وحثها على الالتزام بالقانون الدولي، الذي يحظر بوضوح أي دعوة إلى الكراهية الدينية، فيما تعددت المظاهرات في العديد من البلدان، مثل إيران ولبنان والعراق، بينما دعت الدول المشار إليها الأمم المتحدة للتوصل إلى ميثاق دولي لتجريم ازدراء الأديان.
من جانبها، أعربت «الخارجية البحرينية» عن إدانتها لحرق نسخة من القرآن الكريم بالسويد، مستنكرةً بشدة هذا العمل الذي يمثل استفزازًا لمشاعر المسلمين في العالم، وإساءة مرفوضة، وتحريضا على الكراهية والعنف. يأتي هذا في الوقت الذي تعلي فيه البحرين من قيم التسامح الديني، وحرية المعتقد، ما جعلها تمثل «نموذجًا رائدًا» في هذا الشأن، حيث استضافت «المنامة»، يوم مايو2023 مؤتمر «حرية الدين والمعتقد»، وهو المؤتمر السنوي بين البحرين والاتحاد الأوروبي في نسخته الثانية بمشاركة 27 دولة أوروبية، والتي كانت نسخته الأولى عام 2022؛ قد أوصت بتشكيل لجنة عمل شبابية بين الجانبين.
وبينما انعقدت في شهر فبراير الماضي، الفعالية التي استضافها «مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي»، في بروكسل تحت عنوان «الفضاء الإلكتروني كوسيلة للحد من الإرهاب، وزيادة مؤشر السلام.. دور حرية الدين والمعتقد»، بعد الإطلاق الأوروبي الرسمي الناجح لإعلان مملكة البحرين في روما في 26 يناير2023 بمشاركة مجموعة العمل الشبابية المشتركة -السالفة الذكر- فقد كانت زيارة قداسة البابا «فرانسيس»، للمملكة في نوفمبر 2022، «حدثا مهما» في هذا الصدد.
وفي إطار حرص «البحرين»، وتوجهها الاستراتيجي لمد جـسـور الحـوار بـيـن قـادة الأديان والمذاهب ورمـوز الفكر والثقافة، نظمت في نوفمبر الماضي، «ملتقى البحرين للحوار بين الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني»، تحت رعاية جلالة الملك «حمد بن عيسى آل خليفة»، وبمشاركة شيخ الأزهر الدكتور «أحمد الطيب»، رئيس مجلس حكماء المسلمين، والبابا «فرانسيس»، بابا الكنيسة الكاثوليكية، ونحو 200 شخصية من رموز وقادة وممثلي الأديان حول العالم، ومركز الملك حمد للتعايش السلمي. وتناولت محاوره؛ تجارب تعزيز التعايش والأخوة الإنسانية والحوار والتعايش السلمي (إعلان البحرين نموذجًا)، ودور رجال وعلماء الأديان في مواجهة تحديات العصر؛ مثل التغير المناخي، وأزمة الغذاء العالمية، وحوار الأديان، وتحقيق السلم العالمي (الأخوة الإنسانية نموذجًا).
وإلى جانب المبادرات البحرينية، تعددت مبادرات دول «مجلس التعاون الخليجي» الأخرى من أجل التقريب بين الأديان والأعراق، وإعلاء قيم التسامح، والعيش المشترك، وقبول الآخر، ونبذ الكراهية والحقد والعنف والتطرف، مثل «ملتقى القيم المشتركة بين الأديان»، الذي عُقد في «الرياض»، مايو 2022 بمشاركة قادة دينيين من مختلف أنحاء العالم؛ بهدف بلورة رؤية حضارية لترسيخ قيم الوسطية في المجتمعات الإنسانية، والمؤتمر الدولي (المؤتلف الإنساني والتنمية المستدامة للجميع)، الذي نظمته في نوفمبر الماضي وزارة الأوقاف للشؤون الدينية، بسلطنة عُمان مع وزارة الإعلام، وشبكة صناع السلام الدينيين والتقليديين ضمن الاحتفال باليوم العالمي للتسامح.
على العموم، فإنه برغم ما أسفرت عنه هذه المبادرات وغيرها من اتساع دائرة الفهم، والاستعداد لقبول الاختلاف، والتسامح، فإن تعدد حالات الإساءة لرموز وأقليات إسلامية بعد انعقادها، يشير إلى أن العالم مازال بحاجة إلى إجراءات أخرى، تتسم بالحسم والفعالية تنهي هذه الظاهرة، وتعيد مسار الحضارة الإنسانية إلى طريقه الصحيح.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك