مع محاولة عزل «موسكو» عن العالم الغربي سياسيًا، واقتصاديًا، في أعقاب الحرب مع أوكرانيا في فبراير 2022؛ سعت لتحسين علاقاتها بالعديد من دول العالم الأخرى. ففي آسيا، عززت التعاون العسكري مع «الصين»، في حين دعمت علاقاتها الاقتصادية مع «بكين»، و«نيودلهي»، عبر مبيعات الطاقة المخفضة، التي أوصلت كميات النفط الخام المنقولة إلى مستويات قياسية في مايو 2023، بحوالي 110 ملايين برميل. وفي إفريقيا، تمكنت من كسب ود دول مثل «جنوب إفريقيا»، للامتناع عن انتقاد سياساتها، وهو إنجاز كررته في أمريكا الجنوبية، حيث لاقت مخاوفها الأمنية تجاه حلف الناتو أيضًا استجابة.
ويأتي في مقدمة الجهود الدبلوماسية الروسية، لكسب تأييد دول خارج نطاق النفوذ الجيوسياسي الغربي؛ دور وزير الخارجية المخضرم «سيرجي لافروف». وبينما أوضح «مارك جاليوتي»، المؤرخ البريطاني، أن كبير الدبلوماسيين الروس، قد تراجع دوره في السنوات الأخيرة من الظهور كـ«عملاق الدبلوماسية الدولية المطلق»، إلى «أداء ضعيف» في الغرب؛ فقد أقر بأنه، لا يزال «ذكيًا»، و«صاحب دور مؤثر»؛ ما يتجلى في استمرار جولته العالمية بزيارات رفيعة المستوى لدول أمريكا اللاتينية، وإفريقيا، والشرق الأوسط.
وخلال جهوده الدبلوماسية الأخيرة، سعى «لافروف»، لتعزيز مصالح روسيا مع أعضاء «مجلس التعاون الخليجي»، وتوثيق العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الطرفين، الأمر الذي أكده الاجتماع الوزاري السادس المشترك للحوار الاستراتيجي بين دول المجلس وموسكو، والذي استضافته الأخيرة في منتصف يوليو 2023، وأفصح عن رغبتها في تكوين «شراكات أقوى حول العالم»، وعكس أيضا رغبة دول الخليج في الحفاظ على علاقاتها الخاصة مع القوى العظمى العالمية، بمنأى عن «واشنطن».
وفي الاجتماع كان أحد الجوانب التي أثيرت، فيما يتعلق بسياسات الشرق الأوسط، هو كيف تدخلت «روسيا»، في نزاع إقليمي في الخليج، عبر دعمها أحقية «الإمارات»، بالجزر الثلاث التي احتلتها «إيران» عام 1970، وهو الإجراء الذي أثار «موجة من الانتقادات الإيرانية»، وعليه، تساءل المحللون حول إلى أي مدى تُترجم العلاقات الاقتصادية الروسية- الإيرانية، في ضوء الحقائق الجيوسياسية الجديدة في المنطقة، وكذلك ما إذا كانت «موسكو»، قد تصل إلى استنتاج مفاده، أن تعزيز العلاقات الاقتصادية مع دول الخليج، قد يحل محل العلاقات السياسية والعسكرية الحالية مع «طهران».
وتعليقا على ذلك، أوضح بعض المعلقين أن «موسكو»، «تحرص بشكل واضح على تعميق التعاون مع دول الخليج»، على صعيد القضايا الإقليمية والدولية، مع ما يُدره هذا التقارب من مزايا بالنسبة لها. ومع عزلها دبلوماسيا واقتصاديا عن الغرب، أكد «ألكسندر غابويف»، من «مؤسسة كارنيجي»، أنها باتت «تعتمد بشكل متزايد على الصين كسوق لسلعها». وإلى جانب مساعدتها في تمويل حربها في أوكرانيا، لاحظ «أندرو سكوبل»، و«نيكلاس سوانستروم»، من «معهد سياسات الأمن والتنمية»، أن «بكين»، تبدو «الشريك الصامت»، لموسكو في الشؤون الدولية، ومع ذلك، فمن المرجح أن تعيد التفكير في طرق دعمها للكرملين، بدًلا من رؤيته كشريك على قدم المساواة، بعد «خطئه»، بخوض حرب أوكرانيا.
وبينما أشارت «روكساندرا إيورداتش»، من شبكة «سي إن بي سي»، إلى أن حرب أوكرانيا، «خلقت شراكة ملائمة بين «موسكو»، و«طهران»، مع تأثرهما «بالعقوبات الغربية، ووجود مجموعة متضائلة من الشركاء التجاريين»، وتعاونهما في التهرب من العقوبات، ونقل الأسلحة بين البلدين؛ فقد أشار «أليكس فاتانكا»، و«عبد الرسول ديفسلار»، من «معهد الشرق الأوسط»، إلى استمرار «الشك» المتبادل بينهما بشأن سياسة الطاقة، مع عدم وجود رغبة لدى «موسكو»، في رؤية «طهران»، تظهر كمزود طاقة بديل لأوروبا»، في الوقت الذي يهدد حجم صادراتها الموسع إلى «بكين»، الحصة السوقية لأسعارها المخفضة للغاية.
ووفقًا لـ«معهد الولايات المتحدة للسلام»، فإنه مع تقلب العلاقات التجارية بين البلدين أيضًا خلال الثلاثين عامًا الماضية، فإن العلاقات الاقتصادية المستدامة مع دول الخليج، لا تزال تشهد «طفرة اقتصادية»، كخيار أفضل على المدى الطويل.
وعلى الرغم من أن «روسيا»، تتراجع حاليًا عن الصين، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، باعتبارها في المرتبة الرابعة عشرة من بين أكبر مصدري البضائع والسلع إلى «الخليج»؛ فقد نمت تجارتها الثنائية مع «الإمارات»، بنسبة 68% في عام 2022، فضلاً عن تأكيد نائب وزير الاستثمار السعودي «بدر البدر»، أن زيادة التجارة بينها، وبين دول «مجلس التعاون»، هي «فرصة رئيسية بالنسبة لنا»، حيث تعتزم «الرياض»، تعزيز حجم التجارة معها إلى 5 مليارات دولار، بشكل أكبر من مستواها في عام 2022، البالغ 1.75 مليار دولار.
وبشكل واضح، تسعى «روسيا»، إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع دول الخليج. حيث إن الاجتماع الوزاري المشترك السادس للحوار الاستراتيجي جاء لتعزيز أوجه التعاون، وأن الكرملين، أصبح بحاجة إلى «تقديم تنازلات» في مسار الدبلوماسية الإقليمية». ولعل أحد هذه التنازلات، كما ورد في وسائل الإعلام الغربية، هو ذلك البيان الذي انحازت فيه روسيا إلى جانب الإمارات وبقية دول الخليج، ضد إيران في نزاع إقليمي حول الجزر الثلاث.
وتسلط هذه الخطوة الضوء أيضًا على التوازن المتزايد لروسيا، بين شراكتها الراسخة مع «إيران»، وعزمها الواضح على تعزيز العلاقات مع «دول الخليج». وعلى الرغم من أن «مارك كاتز»، من «المجلس الأطلسي»، قد رأى أن الدعوة إلى «مفاوضات ثنائية»، أو إلى «تحكيم محكمة العدل الدولية»، كانت «غير مجدية»، فقد لقي تأييد «موسكو»، للسيادة الإماراتية على جزر «أبو موسى»، و«طنب الكبرى»، و«طنب الصغرى»، التي احتلتها طهران، إدانة شديدة من إيران، رغم علاقتهما الوثيقة.
وفي هذا الصدد، تساءل المسؤول السابق في الخارجية الإيرانية «قاسم محبلي»، كيف «لا يهتم الأصدقاء كثيرًا بمطالب إيران، وبدلاً من ذلك، يعطون الأولوية لتلبية مطالب خصومنا». ووصف «حميد أبو طالبي»، المستشار السياسي للرئيس السابق «حسن روحاني، دعم روسيا للإمارات، بأنه «خيانة لا تُغتفر». وأشار المتحدث باسم «الخارجية الإيرانية»، «ناصر كنعاني»، إلى أن دعمها لمطالبة الإمارات بالجزر، يتعارض مع العلاقات الودية بين إيران وجيرانها، مشيرا إلى أن المحادثات بشأن عودتها ستعرض «تنمية المنطقة واستقرارها للخطر».
وبالنسبة للمحللين، يثير هذا التطور «شكوكا»، حول السياسة الخارجية الإيرانية، و«مدى فعاليتها بشأن التطلع إلى الشرق الأقصى»، وعندما تقترن تلك الشكوك، بتوقيع «بكين»، بالمثل في ديسمبر 2022 على بيان بشأن «مبادرة مع دول الخليج للتوصل إلى حل سلمي لعودة هذه الجزر إلى الإمارات -وهي خطوة أدت إلى استدعاء طهران للسفير الصيني- وإعطاء الأولوية للعلاقات الودية المتزايدة مع دول الخليج؛ فمن الواضح أن الفوائد الاقتصادية الناتجة من خلال التجارة، والاستثمارات، لها الأسبقية لكل من «موسكو»، و«بكين»، على دعمهما لطموحات إيران الجيوسياسية في الشرق الأوسط.
من جانبه، أشار «كاتز»، إلى أن السبب وراء القرار الدبلوماسي الروسي، يكمن في «آماله لتعزيز صادراته واستثماراته في الإمارات، ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى»، وهو أمر أشار إلى أن إيران لا يمكن أن تضاهيه؛ نظرًا الى تفاقم الصعوبات الاقتصادية، التي تواجهها والمتعلقة بالعقوبات الغربية المفروضة عليها.
ويقال إن عدم إشارة «طهران»، إلى «موسكو»، كحليف استراتيجي يعني أن شراكتهما «تكتيكية»، لمواجهة خصومهما المشتركين، مثل الولايات المتحدة، كما أن هذا الأمر يثبت أن لدى كل منهما «حدودا واضحة»، بشأن طموحات كل منهما للآخر، فيما يتعلق بالعلاقات التجارية والسياسية الأخرى، ولا سيما أن المواقف السياسية لكل منهما، ربما «تتباعد في معظم القضايا الدولية»، وعليه، يبدو أن تحول روسيا الكامل إلى التركيز على دول الخليج أصبح «واضحًا».
وبالنسبة إلى دول الخليج، وحقيقة وجود نظام عالمي متعدد الأقطاب، فإن الحفاظ على العلاقات الاقتصادية والسياسية مع جميع القوى الكبرى، يعتبر «أمرًا مفيدًا»، لمرونة السياسات الخارجية، خاصة مع استمرار تطور العلاقات مع الصين. وأشار «جوناثان لورد»، و«أرونا بايغال»، في مجلة «فورين بوليسي»، إلى أن شركاء الولايات المتحدة الإقليميين غير مكترثين أو متغافلين عن الحماس الواضح والمساعي المكثفة الجارية في واشنطن لعمل تكامل أمني إقليمي بالمنطقة. وأضاف «كاتز»، أن دول الخليج، يمكن أن تكون «ممتنة»، لأن موسكو «دعمت موقفها» على الجزر التي احتلتها إيران، وبالتالي، فقد وضح فائدة تعزيز تعاونها معها».
على العموم، في حين أن المشاركة الاقتصادية والأمنية الروسية مع دول الخليج، لا تزال متراجعة كثيرًا عن نظيراتها الأمريكية والصينية؛ فإن تصريحات «لافروف»، حول رغبة بلاده في توثيق العلاقات عبر جميع المجالات، جنبًا إلى جنب مع تأكيدات الأمانة العامة لمجلس التعاون، أن دول المنطقة «تحرص على تعزيز جميع أشكال التعاون مع موسكو»، في ضوء «الرغبة الثابتة في التحرك نحو ترسيخ روابطهما وبناء علاقات قوية»؛ كل هذا يعد بمثابة «دليل»، على كيفية استمرار تحول كل الديناميكيات الإقليمية، مع تكيف دول الخليج مع المتغيرات الدبلوماسية والجيوسياسية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك