صرخة مدوية أَطْلقها الجراح الأمريكي العام (US Surgeon General)، والمسؤول الأول عن صحة المواطنين في الولايات المتحدة الأمريكية، وحذَّر فيها من واقعية أزمة صحية عميقة ومتجذرة في المجتمع الأمريكي برمته، فتُصيب بصفة خاصة الركن الرئيسي من أركان بناء وتكوين واستدامة عطاء وتنمية المجتمعات، وهم فئة الأطفال والمراهقين والشباب. وقد صدر هذا التوجيه الشديد العام من مسؤول الصحة العامة «فيفك ميرثي» (Vivek Murthy) في مقال كتبه في صحيفة «يو إس أيه توداي» (USA Today) الواسعة الانتشار في العاشر من يوليو الجاري تحت عنوان: «المخدرات وقضايا الصحة العقلية غير المعالجة تقتل أطفال أمريكا. يمكنكُ المساعدة في إيقافه». ومن الفقرات المهمة التي وردت في المقال، والتي تبين حجم هذه الأزمة الصحية العقيمة التي ضربت أطنابها في أعماق المجتمع الأمريكي، هي أن: «الأدلة والبراهين التي تؤكد تدهور الصحة العقلية لشباب أمريكا تزيد يوماً بعد يوم، وتؤكد وجود أزمة حقيقية يعاني منها الأطفال والشباب والمراهقون، وتتمثل في ارتفاع مُطرد غير مسبوق في أعداد الذين يعانون من الاكتئاب، والقلق، والميل نحو الانتحار، إضافة إلى المراهقين الذين يقضون نحبهم من تعاطي المخدرات».
وهذا النداء الاستغاثي الذي يتوجه به إلى المجتمع الأمريكي برمته لمواجهة هذا الوباء الصحي العقلي والنفسي المتزايد والحد من تداعياته على الشعب الأمريكي، ليس هو الأول من نوعه، ولن يكون حتماً الأخير، فقد نَشر هذا المسؤول الحكومي الأمريكي بياناً إلى وسائل الإعلام في الثالث من مايو 2023، تحت عنوان: «الجراح العام يدق ناقوس الخطر حول التأثير المدمر لوباء الوحدة والعزلة في الولايات المتحدة».
وفي هذه النشرة الإعلامية وجه عناية الشعب الأمريكي نحو ظاهرة خطيرة يعاني منها المجتمع الأمريكي خاصة، والمجتمعات الغربية العامة، ولها آثار خطيرة طويلة المدى على صحة الفرد عامة، سواء الصحة العقلية، أو النفسية، أو الجسدية، وتتفاقم هذه الظاهرة بدرجة أشد عند الشباب، علاوة على أن هذه الظاهرة تؤدي إلى الموت المبكر للأفراد الذين يعانون منها. وهذه الظاهرة هي الوحدة والعزلة التي يعاني منها الشاب وكبار السن على حدٍ سواء، والتي تعتبر من أنماط الحياة الغربية ومن العوامل الرئيسة لتدهور الصحة العقلية لدى الشعب الأمريكي عامة، وفئة الشباب خاصة.
فالعزلة والوحدة، كما جاء في البيان الرسمي، تزيد من نسبة أمراض القلب 29%، وترفع من مخاطر السكتة القلبية 32%، ومخاطر الخرف المبكر 60%، كما تزيد من نسبة الموت المبكر 60%، إضافة إلى الإصابة المزمنة بحالات تدهور الصحة العقلية، كالاكتئاب والقلق.
ومن أجل مواجهة هذا النمط من الحياة ومكافحة هذه الحالة الاجتماعية الشاذة ذات الانعكاسات الصحية الشاملة والبليغة على الفرد والمجتمع، دعا المسؤول الأول عن الصحة العامة إلى سرعة اتخاذ كل الإجراءات لمواجهة هذه الأزمة الصحية العامة، كما قدَّم مقترحاً خاصاً تحت عنوان: «استراتيجية إطارية لتنمية العلاقات الاجتماعية على المستوى الاتحادي». وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تعزيز التواصل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، إضافة إلى التركيز على تقوية العلاقات الاجتماعية على المستويات كافة. كما تُقدم الاستراتيجية توصيات عامة حول دور الأفراد، والحكومات، ومكان العمل، والمنظمات والجمعيات الأهلية، في مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة التي تحولت إلى وباء اجتماعي. وهذه الاستراتيجية الإطارية لها ستة أركان، الأول هو تقوية البنية الاجتماعية، مثل التواصل الفردي، إضافة إلى بناء المتنزهات والحدائق والمكتبات وملاعب الأطفال، والثاني هو وضع سياسات عامة تعزز من التواصل، والركن الثالث فهو تحريك ودعم القطاع الصحي وتوفير الرعاية والعناية اللازمين، والرابع إصلاح البيئة الرقمية، والخامس تعميق وتعزيز معلوماتنا حول هذه الظاهرة من حيث الأسباب والعلاج، وأخيراً الركن السادس وهو تنمية ثقافة الاتصال والتواصل وتغيير هذا النمط من الحياة.
وكل هذه التحذيرات من تدهور الصحة العقلية والنفسية مبنية على إحصاءات واقعية تُدعم حجم المعاناة المجتمعية، وحجم الأزمة الصحية الناجمة في تقديري من نمط الحياة غير المستدام. فقد نَشرتْ «إدارة خدمات تعاطي المخدرات والصحة العقلية» التابعة لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية تقريراً في ديسمبر 2022 تحت عنوان: «استخدام المواد الرئيسية ومؤشرات الصحة العقلية في الولايات الأمريكية: نتائج من الدراسة القومية لاستخدام المخدرات والصحة لعام 2021»، والمواد التي تقع تحت الدراسة هي التدخين وخاصة السجائر الإلكترونية، والإفراط في شرب المسكرات، والحشيش، والكوكايين، والهيروين، والحبوب المخدرة والمهلوسة، والأفيون. أما أمراض الصحة العقلية فيفيد التقرير بأن في عام 2021، 5,5% (14,1 مليون) من الشباب الذين أعمارهم 18 أو أكثر كانوا يعانون من مشكلات شديدة في صحتهم العقلية(Serious Mental Illness, SMI)، كما أنه في عام 2021 نحو 20,1% (5 ملايين) من الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و17 عاما كانوا يعيشون تحت وطأة الاكتئاب الشديد، كذلك فإن 12,7% (3,3 ملايين) من هذه الفئة العمرية كانت تفكر وتنوي الانتحار.
وتقرير آخر منشور في 16 ديسمبر 2022 من «مراكز منع والتحكم في المرض» ضمن سلسلة تقارير أسبوعية حول «الأمراض والوفيات»، تحت عنوان: «الوفيات من الجرعة الزائدة من المخدرات للفئة العمرية من 10 إلى 19 في الولايات الأمريكية، يوليو 2019 إلى ديسمبر 2021». فقد أفاد التقرير بأن هناك زيادة كبيرة في عدد الوفيات لمن تقع أعمارهم بين 14 و18 في الفترة من عام 2019 إلى 2021. أما الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و19 عاماً فقد زادت نسبة الوفيات من الجرعة الزائدة 109% من يوليو 2019 إلى يوليو 2021، والوفيات من الحبوب المخدرة مثل الفنتانيل(Fentanyl) زادت بنسبة 182% . وبشكلٍ عام زادت نسبة الوفيات من الجرعة الزائدة 30% في الفترة من 2019 إلى 2020، وبنسبة 15% في 2021، أي قرابة 108 آلاف وفاة في عام 2021. والذين تتراوح أعمارهم بين 14 و18 زادت نسبة الوفيات من الجرعة الزائدة 94% في الفترة من 2019 إلى 2020، و20% من 2020 إلى 2021. فالاستنتاجات العامة من التقرير أن هناك زيادة كبيرة في عدد الذين قضوا نحبهم بسبب الجرعة الزائدة من الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و19 سنة، وقرابة 41% منهم كانوا يعانون من مشكلات في الصحة العقلية.
وعلاوة على صرخات ونداءات المسؤول الأول عن الصحة العامة، فقد أعلن بايدن في خطابه الأول حول حالة الاتحاد بأن الصحة العقلية للأطفال والشباب خاصة هي من الأركان الرئيسية لجدول أعمال «الوحدة» بين الحزبين الرئيسيين، أي القضايا غير الخلافية كأبحاث السرطان، والعناية بالجنود الأمريكيين السابقين، ومواجهة وباء الأفيون. كما دشنت وزارة الصحة والخدمات للإنسانية خطاً جديداً (Suicide and Crisis Lifeline) لكل حالات أمراض الصحة العقلية في يوليو 2022، وهذا الخط حتى كتابة هذه السطور تسلم أكثر من خمسة ملايين مكالمة، مما يؤكد تفشي ظاهرة تدهور الصحة العقلية في المجتمع الأمريكي.
فهذه الأزمة الاجتماعية الصحية التي تزلزل المجتمع الأمريكي برمته، وخاصة الأطفال والشباب، هي نتيجة مباشرة وحتمية لنمط حياتهم، وانعكاس فوري لعاداتهم المجتمعية، التي تتمثل في التفكك الأسري، وابتعاد وانفصال الشباب عن توجيه ومراقبة الوالدين منذ الصغر، وضعف الوازع الديني وفقر الروحانيات على جميع المستويات، إضافة إلى عدم وجود التواصل الاجتماعي بين أفراد الأسرة والمجتمع، وضعف التكافل الاجتماعي بكل صوره وأشكاله. كذلك من الأسباب عدم قيام المدارس والجمعيات الأهلية بدورها في التربية السليمة ورفع مستوى الوعي بالسلوكيات الخاطئة والمدمرة.
ولذلك إذا أردنا أن نحمي مجتمعنا من الأمراض والأوبئة الصحية والاجتماعية التي أصابت المجتمعات الغربية خاصة، فعلينا تجنب هذا النمط الغربي غير المستدام في حياتنا وفي مجتمعاتنا.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك