على الرغم من الدور المحوري الذي تلعبه التكنولوجيا الحديثة في جميع مناحي حياتنا، فإن مخاطرها ربما تفوق أهميتها في بعض المجالات لسبب بسيط مؤداه أن العالم لا يزال يشهد صراعاً وتنافساً في مناطق عديدة، ذلك الصراع الذي لم يعد يقتصر على الدول أو المنظمات الكبرى، بل أضحت الجماعات دون الدول طرفاً فيه، وفي ظل وجود تحالفات دولية لمواجهة مخاطر تلك الجماعات، فقد وجدت ضالتها في التوظيف السيئ للتكنولوجيا الحديثة من خلال استهداف المنشآت الحيوية للدول، وإزاء تلك المخاطر لم يقف العالم مكتوف الأيدي، وخاصة مع تأثير التكنولوجيا على مضامين تهديدات الأمن القومي وكذلك العمل العسكري.
وتأسيساً على ما سبق، فقد استرعى انتباهي حدثان مهمان الأول: الاجتماع التمهيدي للندوة السابعة والعشرين لممثلي رؤساء هيئات التدريب للقوات المسلحة العربية بمقر الأمانة العامة للجامعة العربية بالقاهرة خلال الفترة من 16-27 يوليو2023، وكان لافتاً عنوان ذلك الاجتماع وهو «تأثير التهديدات الحديثة والحروب اللامتماثلة على العمليات والتدريب العسكري»، والثاني: إعلان الأمم المتحدة عقد مجلس الأمن للمرة الأولى جلسة لمناقشة مخاطر الذكاء الاصطناعي في 18 يوليو 2023 والتي جاءت بعنوان: «الذكاء الاصطناعي: الفرص والمخاطر للسلام والأمن الدوليين».
الحدثان مهمان، الأول داخل أروقة جامعة الدول العربية أحد تنظيمات الأمن الإقليمي التي يتكامل عملها مع منظمة الأمم المتحدة وفقاً للفصل الثامن من الميثاق، والثاني داخل أروقة مجلس الأمن وهي المناقشات الرسمية الأولى حول مخاطر الذكاء الاصطناعي.
فما مخاطر تلك التكنولوجيا خاصة على الأمن القومي للدول؟ وما أبرز المقترحات التي أثيرت لمواجهة تلك المخاطر؟ وما معوقات ذلك؟ الإجابة عن تلك التساؤلات جاءت هذا المقال.
بداية يمكن تحديد مخاطر التكنولوجيا الحديثة على الأمن القومي للدول في خمسة مخاطر على سبيل المثال لا الحصر أولها: إعادة ترتيب قوة الدول، صحيح أن القدرات العسكرية التقليدية وغير التقليدية لاتزال مهمة بشأن تصنيف جيوش العالم، ولكن في ظل التكنولوجيا الحديثة، فإن المشهد يبدو مغايراً تماماً، فعندما نتحدث الآن على سبيل المثال عن حماية حدود الدول فلا سبيل للحديث عن الدبابات والطائرات التقليدية بل الطائرات بدون طيار «الدرونز» ستكون حاضرة وبقوة عند تقييم قدرات الدول، وقد استخدمت تلك الطائرات في العديد من الصراعات، ثانيها: استهداف المنشآت الحيوية للدول، ومنها بعض دول الخليج العربي التي واجهت تلك المخاطر، وقد أشار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيرش إلى تلك القضية صراحة خلال الاجتماع المشار إليه بالقول «إن الهجمات الإلكترونية المدعومة بالذكاء الاصطناعي تستهدف البنى التحتية الحيوية والعمليات الإنسانية وعمليات حفظ السلام تسبب معاناة إنسانية كبرى»، وثالثها: تأثير تلك التكنولوجيا على العمليات العسكرية والتدريب وهو ما رسخ قناعة لدى الدول العربية للاتفاق على موضوع الندوة المشار إليها لممثلي هيئات التدريب في القوات المسلحة بالدول العربية لمناقشة ذلك الأمر بشكل موسع من خلال طلب 9 دراسات من تلك الدول ودمجها في دراسة واحدة لتكون هي الوثيقة الأساسية التي تتم مناقشتها، ولعل الأمر المهم هنا هو إعادة التأكيد على أن التكنولوجيا الحديثة قد أوجدت مفهوم الحروب اللامتماثلة منذ سنوات مضت، ومن ثم لا بد أن تتلاءم العقيدة العسكرية للجيوش مع ذلك التحدي، ورابعها: العلاقة بين التكنولوجيا ومجالات تهديد أخرى بالغة الخطورة من بينها الأسلحة النووية، وهو ما أشار إليه وحذر منه الأمين العام للأمم المتحدة أيضاً بالقول «التفاعل بين الذكاء الاصطناعي والأسلحة النووية والتكنولوجيا البيولوجية والتكنولوجيا العصبية وتكنولوجيا الروبوتات هو أمر مقلق للغاية»، في عام 2016 عقدت القمة الرابعة للأمن النووي بالولايات المتحدة وكان موضوعها الرئيسي المخاوف من امتلاك الجماعات الإرهابية أسلحة نووية وكيمائية بما يعني حتمية أخذ تحذير الأمين العام للأمم المتحدة بعين الاعتبار وهي كلمات ذات دلالات عميقة فتأثير الذكاء الاصطناعي على مهددات الأمن الوطني التي حددها سيكون تحدياً بالغ الخطورة خسائره باهظة دون إمكانية تحديد المسؤولية عن مرتكبيه، وخامساً: توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في نشر المعلومات المضللة وتكريس خطاب الكراهية وهو ما أشار إليه جوتيرش صراحة بالقول إنها «لحظة فارقة»، ولاشك أن ذلك التحدي يعد أخطر تهديدات الأمن القومي للدول في ظل الثورة الهائلة في وسائل الاتصال الحديثة بما يؤثر بشكل بالغ على قضايا الدول وسمعتها لدى المجتمع الدولي إذا ما واجهت نشر معلومات مضللة يقصد بها الإساءة للدولة.
ولعل التساؤل المنطقي هو أنه بالرغم من أن حاجة العالم إلى التكنولوجيا الحديثة قد أضحت مسألة استراتيجية ولكن في الوقت ذاته عليها مواجهة مخاطرها، تلك المواجهة التي يجب أن تكون جماعية وتحت مظلة المنظمة الأممية وما تفرضه من التزامات وفق القانون الدولي بشأن استخدام تلك التقنيات الحديثة، فهل يمكن تحقيق ذلك التعاون في ظل احتدام الصراع والتنافس، وخاصة بين القوى الكبرى واعتبار امتلاك تلك التقنيات أحد مؤشرات التفوق في القوة؟ وفي الوقت ذاته استمرار الفجوة بين مضامين القانون الدولي والواقع بشأن قضايا أخرى لم تستطع المنظمة إلزام الدول بشأنها؟ تساؤلات لها وجاهتها ولكن في تقديري أن بدء المنظمة الأممية إثارة تلك القضية على هذا النحو والتنبيه إلى مخاطرها وعلاقتها بمجالات أخرى تهدد الأمن القومي للدول هو بحد ذاته بداية مهمة، بل إن جوتيرش قال إن حوكمة الذكاء الاصطناعي أصبحت متطلباً ضرورياً ومع إقراره بصعوبة الأمر، لكنه أكد إمكانية الانطلاق من إطارين الأول: المبادئ الإرشادية لعامي 2018-2019 بشأن أنظمة الأسلحة الذاتية التشغيل المميتة، والتي تم تبنيها عبر اتفاقية حظر أو تقييد استخدام أسلحة تقليدية محددة، والثاني: توصيات أخلاقيات الذكاء الاصطناعي التي تم تبنيها من خلال منظمة اليونسكو عام 2021.
أتصور أن دول العالم في ظل سعيها التنافسي لتطوير تقنيات تكنولوجية جديدة باعتبارها جوهر الأمن القومي الآن، وخاصة على الصعيد العسكري، فإنها في الوقت ذاته مدعوة إلى التفكير في مخاطر خروج ذلك التنافس عن السيطرة بما يتيح أيضاً للجماعات دون الدول أن تكون طرفاً في ذلك التنافس على نحو يهدد أمن دول العالم كافة، ولعل ترحيب الأمين العام للأمم المتحدة في نهاية ذلك الاجتماع بتوجهات بعض الدول لتأييد تأسيس كيان أممي جديد معني بإدارة تلك التقنيات على نحو رشيد للاستفادة منها والحد من مخاطرها من خلال وجود قواعد يجب أن يلتزم بها الجميع تعد دعوة طموحة ومهمة، بيد أن الواقع في ذلك المجال يتسم بالتعقيد الشديد لكون تلك التقنيات خطرا عابرا للحدود.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك