في جلسة في منزل أحد الأصدقاء، روى لنا أحد الحاضرين هذه الحكاية عن صديق، وهي كالتالي:
يقول إنه كان هناك أب، وكان من عادة هذا الأب أن يتصل يوميًا عند عودته من العمل بزوجته ليسألها إن كانت تريد أي شيء قبيل وصوله الى المنزل، وذات يوم اتصل كالعادة،
الأب: آلو، أنا في الطريق هل تحتاجين أي شيء اشتريه وأنا قادم؟
الأم: لا، لا شيء.
الأب: طيب، إذن مسافة الطريق وأكون في البيت، جهزي الغداء لأني جائع ولدي عمل بعد العصر.
الأم: حاضر.
ولكنها في هذا اليوم ولأنها مستعجلة، تركت هاتفها ونسيت أن تغلقه، وقبل أن يقفل الأب هاتفه، سمع زوجته وابنه عبد الله يتحدثان.
عبد الله: هل سأل عني أبي؟
الأم: أكيد يا حبيبي، هو يحبك كثيرًا.
عبد الله: أنا متأكد هو لم يسأل عني، هو لو يحبني كما تقولين لعلمني الشطرنج على الرغم من إلحاحي عليه.
وكان الأب لا يزال يضع الهاتف على أذنه ويسمع، ثم أوقف السيارة لكي يستمع بوضوح إلى حديثهما، سمع عبد الله يكمل حديثه ويقول للأم.
عبد الله: هل تذكرين الشطرنج الذي حصلت عليه هدية لنجاحي السنة الماضية، تمنيت أن يعلمني، طلبت منه فعلمني حركتين، ثم جاءه اتصال فتركني وذهب، وكلما طلبت منه تعليمي يكون مشغولاً، هل تعرفين من علمني الشطرنج؟ والد صديقي أحمد. عندما سمعني أتوسل أحمد أن يعلمني قال لي تعال أعلمك.
الأم: أخفض صوتك لأن والدك على وشك الوصول.
كل هذا الحوار يجري والأب يسمع، وهو في ذهول.
عبد الله: هل أصارحك بشيء يا أمي، عندما أذهب إلى بيت أحمد صديقي ويعود أبوه من العمل، يستأذن أحمد مني ليفتح الباب لأبيه. وعندما يفتح الباب يسلم على أبيه يسأله أبوه وهو يفتح يداه أين الحضن يا أحمد؟ فيرمي أحمد بنفسه في حضن أبيه، وبعدها يعود لنكمل اللعب.
هزت هذه الجملة الأب كثيرًا، وهو جالس في السيارة. فقامت الأم بحضن ولدها بقوة، وقالت له: ألا أحضنك أنا كل يوم عند عودتك من المدرسة؟
وفي تلك اللحظة سمع الجملة التي فتحت سيول دموعه، وقال في نفسه «يا ليتني لم أسمع ما قاله ولدي».
عبد الله: يا أمي، أنا جائع لحضن أبي.
الأم: يا عبدالله، أبوك يعود وهو منهك من التعب، أعذره.
عبد الله: أعرف، وهو يحمل معه دائمًا احتياجاتك واحتياجات البيت وأوراق العمل، وعندما يجلس ليستريح يمسك الهاتف ويكمل اتصالاته ويعبث بالأوراق.
ثم جاءت لحظة صمت طويلة.
وبعدها طلب عبدالله من أمه هاتفها ليلعب به حتى يحين موعد الغداء وعودة الأب. وانتبه الأب فأسرع وأغلق الهاتف قبل أن يشعر ابنه. ثم أخذ يفكر في كلام ولده. وأثناء ذلك بدأ يعيد علاقته في بيته كشريط سينمائي، ويعيد الكلام الذي سمعه. فكانت مشاعره تهزه، وسأل نفسه سؤالا: «كيف عدّت سنين من عمر ابني من غير أن أفكر باحتضانه؟». عندها شعر أنه هو المحتاج كثيرًا إلى حضن ولده.
وفي طريق العودة، مرّ على محل الألعاب واشترى شطرنج جديدا، وغلفه كأحلى هدية، ورجع مسرعًا إلى البيت، ولم يكن يعرف ماذا سيفعل؟ أو كيف يبدأ؟ ولكن كل الذي كان يعرفه أن عليه تغيير نفسه وإصلاح الأوضاع. ترك أوراق عمله في سيارته، وحرص ألا يكون في يده غير الهدية. فوقف بالهدية على باب البيت، ولم يفتح الباب بالمفتاح، وإنما ضغط على الجرس، فرن.
فتح عبدالله الباب، وجد أباه واقفا أمامه وفي يديه كيس جميل، وعلى وجهه ابتسامة حب عريضة لم يرها من قبل.
نادت الأم من الداخل: مَنْ بالباب يا عبدالله؟
عبدالله: إنه أبي. قالها من غير أي اكتراث.
دخل الأب وقفل الباب، حينها عزم عبدالله العودة إلى غرفته، ولكن الأب سارع وقال: أين حضن بابا؟
تسمر عبدالله في مكانه، والتفت وشعر أن رأسه يدور، وكأنه يبحث ليتأكد أن ما سمعه صحيح، فقال: هل قلت شيئًا يا أبي؟
الأب: نعم، قلت لك أين الحضن يا عبدالله؟
جرى عبدالله وصرخ وهو يفتح ذراعيه فارتمى في حضن أبيه، رمى الأب الهدية على الأرض، وحضن ابنه، وظل يقبل ابنه في كل مكان وهو يحمله، وكأنه يراه للمرة الأولى.
خرجت الأم من المطبخ، وهي تقول: حالاً سيكون الغداء جاهزا. ولكنها وقفت مكانها مستغربة وهي تشاهد زوجها يحمل الابن، وكأن الاثنين في دنيا أخرى حتى لم ينتبها إلى دخولها. ثم جلس الأب، وعبدالله في حضنه، وهمس إلى زوجته أن تؤجل الغداء قليلاً.
مرّ الوقت وعبدالله لا يريد أن يترك حضن أبيه حتى غط في نوم عميق، وبعدها نام الأب الذي أدرك أنه هو من كان الجائع الأكثر لحضن ولده.
عندما انتهى الصديق من حكايته، قال أحد الحضور: ماذا تريد أن تقول من هذه الحكاية.
قال الصديق الذي روى الحكاية: علينا يا صديقي علينا أن ننتبه إلى تصرفاتنا مع أولادنا، وألا نتركهم، لأنهم سيبحثون عن الدفء خارج المنزل، وربما في أحضان آخرين، وربما هؤلاء يتصيدون مثل هؤلاء الأبناء فيرشدونهم إلى طرق أخرى لا نرغب فيها، حينئذ سيكون ثمن العودة غاليًا، وربما نندم طوال حياتنا على كل تلك اللحظات التي مرت من غير أن ننتبه، ففي النهاية نحن من سيدفع الفاتورة.
هذه الحكاية ذكرتني بحكاية أخرى،
ذات يوم اتصل بي صديق، وقال: إن أبنائي هجروني منذ سنوات، وأنا الآن مقعد وكبير في السن، فهل يمكن أن تحدثهم عني حتى يزوروني على الأقل مرة في الشهر.
اتصلت بالأبناء، وطلبت منهم عقد مجلس صلح بينهم وبين والدهم. اتفقنا على موعد وذهبنا جميعًا إلى ذلك الأب المقعد، وأنا في الحقيقة لا أعرف الكثير عن خفايا الحكايات التي بين الأب والأولاد.
جلسنا في مجلس البيت، أتى والدهم على الكرسي المتحرك، فجلس أمام الأولاد، ولكن كانت الملاحظة الأولى أن الأولاد لم يهشوا ولم يرحبوا بالأب، استغربت في تلك اللحظة، وسألت نفسي «لماذا هذا الجفاء؟».
بدأت أنا بالحديث، وحاولت أن أذيب الجليد – كما يقال – بين الأطراف، ثم تحدث الأب وهو يحاول أن يلطف الجو ويضحك، ويحاول أن يعتذر عن أمور أنا لم أكن أعرفها، ويبدو أنه كان خجلاً من التطرق إليها، إلا أن الابن الأكبر فجأة قال وهو يقاطع والده: لماذا لا نتحدث بصراحة؟ لماذا لا تقول إنك المخطئ؟ لماذا لا تقول إنك هجرتنا 10 سنوات وكنا نحن مجرد أطفال وبأمسّ الحاجة إليك؟ لماذا لا تفصح عن كل الأحوال التي عشناها ونحن نعاني من ضنك الحياة وأنت لا تسأل عنا من أين نأكل وكيف نعيش؟ لماذا تعود الآن بعد أن أصحبنا رجالاً نعمل وفتحنا البيوت وأصبح لدينا الأولاد؟
هنا قالت البنت: تصور يا أبي، تصور ليلة زفافي، أنت لا ولم تعرف أني تزوجت وأنجبت، ليلة زفافي بكيت ليس خوفًا من شيء، وإنما كل صديقاتي كان آباؤهم يدخلون معهم إلى المسرح إلا أنا، فأنت كنت غائبًا ولا نعرف أين كنت. ثم بكت.
تدخّل الابن الثالث وقال: أين كنت عندما أصبت بشلل نصفي في جسدي كله، وتم تنويمي في المستشفى مدة شهر، لم تزرني قط ولم تعرف أني كنت في المستشفى، واليوم تعود إلينا لأنك محتاج.
ثم بكى الأب، وقال: اعذروني فقد فقدت بصيرتي، وكأني كنت في حالة من فقدان الذاكرة، عشت حياتي خلال السنوات العشر الماضية وكأني في حالة من الانسحاب، لا أعرف لماذا حدث ذلك، أنا أعتذر، فقط سامحوني ولا أريد أي شيء منكم، أريد فقط رعاية وحب.
قال الأب الأكبر: أنت تريد الغفران، ولكني لا أستطيع أن أمنحك هذا الغفران، ثم ما حكاية هذه القضايا التي رفعتها علينا في المحاكم أنا وإخوتي وتطلب من المحكمة أن تأخذ جزءا من رواتبنا الشهرية حتى ننفق عليك، هل هذا هو الغفران الذي تريد، أنت مازلت كما أنت جاحد.
خرج الأبناء من البيت، خرجت خلفهم أحاول تهدئتهم إلا أنهم رفضوا كل المحاولات. عدت إلى الأب وجلست معه، وقال: أرأيت هذا الجحود وعقوق الوالدين.
فالتفت إليه وقالت: نعم، ولكني لأول مرة أرى عقوقا من نوع آخر، أنت يا رجل صنعت هذا بنفسك، كيف تفعل بنفسك مثل هذا، يا رجل إن عاطفة الأب والوالدين أقوى عاطفة في الوجود، لماذا تركت أبناءك طوال كل هذه السنوات، ثم تأتي بعد كل هذه السنوات وتطلب الغفران.
وهذا ما حدث،،
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك