فيما تسعى اليابان -رابع أكبر مستوردي النفط في العالم- إلى تعزيز أمن طاقتها؛ تأتي زيارة رئيس وزرائها فوميو كيشيدا لثلاث دول خليجية، هي السعودية، والإمارات وقطر، وخاصة أن الخليج يعتبر المصدر الرئيسي لإمدادها بالنفط والغاز. وبينما تسعى دول الخليج لتحقيق الحياد الكربوني؛ فإن هذه الزيارة تشمل أيضًا التعاون في تقنيات الوصول إلى هذا الهدف، كما تشمل تبادل المعرفة في مجال الطاقة المتجددة الصديقة للبيئة، كالهيدروجين والأمونيا، بعد أن قامت شركة ماروبيني اليابانية بالاتفاق مع صندوق الاستثمارات العامة السعودي، على دراسة إنتاج الهيدروجين الأخضر في المملكة.
وقبيل هذه الزيارة، دارت مناقشات بين مسؤولين يابانيين، وأمين عام منظمة الأوبك، هيثم الغيص في مقر المنظمة في فيينا، يوم 13 يونيو الماضي، حول إمدادات الطاقة العالمية، وتوقعات الطلب، وتم الاتفاق على إطلاق خط اتصال دائم، فيما أعرب رئيس رابطة الغاز اليابانية، تاكا شيرو هونجو، أن تؤدي زيارة كيشيدا لدول الخليج، إلى ضمان استقرار أمن إمدادات الغاز المسال ومصادر الطاقة الأخرى.
وتعد هذه الزيارة هي الأولى لرئيس الوزراء الياباني كيشيدا، منذ الزيارة التي قام بها سابقه شينزو آبي عام 2020، فيما تتطلع رابطة الغاز اليابانية، إلى إبرام عقود طويلة الآجل لشراء الغاز المسال القطري، في الوقت الذي تجري فيه مفاوضات مع مصادر أخرى بشروط مختلفة، حيث تخشى أن تؤدي مجريات الحرب الروسية الأوكرانية إلى تهديد إمداداتها من الغاز، مع الضغط المستمر الذي تقوم به الإدارة الأمريكية لتعويض صادرات الغاز الروسي لأوروبا.
ومن المعلوم، أن قطر، هي أكبر مصدر للغاز المسال في العالم. ومنذ اندلاع الحرب الأوكرانية في فبراير 2022، تسارعت حدة المنافسة على شراء منتجاتها، بعد أن فرض الاتحاد الأوروبي، حزمة عقوبات اقتصادية على موسكو، استهدفت قطاع الطاقة لديها، في حين كانت قطر، ملتزمة بعقود توريد للأسواق الآسيوية. ومع اتجاه الأخيرة إلى توسعة حقل الشمال على مرحلتين، من أجل رفع قدرات التسييل إلى 126 مليون طن متري سنويًا بحلول 2027، بدلاً من 77 مليون طن متري سنويًا في الوقت الحالي، تأمل اليابان، أن تؤمن الدوحة احتياجاتها من هذا التوسع وفي ضوء أن إنتاجها من الغاز الطبيعي بلغ نحو 178.4 مليار متر مكعب في 2022. وبحسب بيانات منظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط (أوابك)، تصدرت الدوحة قائمة أكبر مصدري الغاز المسال بإجمالي 80.1 مليون طن، تلتها السعودية، والجزائر، ومصر، والإمارات، وسلطنة عُمان، على التوالي.
ومع ذلك، تقف مسألة تحديد الأسعار عقبة أمام إبرام عقود جديدة طويلة الآجال. ولبحث هذا الأمر ومناقشته، تأتي زيارة كيشيدا لقطر. ومن المعلوم، أن اليابان لم تبرم عقودا مع الدوحة منذ 2014، ما أدى إلى تدهور مشترياتها من الغاز المسال، وخاصة بعد أن أعلنت شركة جيرا، اليابانية -أكبر مستورد للغاز المسال- عدم تجديد عقود لشراء 5.5 ملايين طن سنويًا بعد انتهائها في 2021. وعليه، انخفضت وارداتها من الغاز إلى أكثر من 60% في 2022. وفي المقابل، اتجهت الشركة إلى إبرام عقود مع سلطنة عُمان، والولايات المتحدة في 2022، ومن ثمّ، تراجعت حصة قطر من واردات الغاز اليابانية من 12.1% في هذا العام، إلى 4%. وفيما تتيح عودة طوكيو، للحصول على الغاز القطري لتأمين احتياجاتها؛ فإنها تعزز أيضًا قدرات الدوحة التسويقية مع التوسعات التي تجريها بنسبة 60% بحلول 2027.
وفي واقع الأمر، فإن علاقات اليابان الخليجية، تتصدرها تاريخيًا علاقاتها مع السعودية، التي تعود إلى عام 1938، عندما زار مبعوث الملك عبدالعزيز آل سعود، اليابان لحضور افتتاح مسجد طوكيو. وردا على ذلك، قام المبعوث الياباني بزيارة المملكة عام 1939، والتقى العاهل السعودي. وفي 1953 زار السعودية وفد اقتصادي ياباني، فيما قامت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في 1955 وحينها منحت المملكة شركة الزيت العربية اليابانية حق امتياز التنقيب عن النفط، وجرى توقيع اتفاقية الامتياز عام 1957، وجرى الاكتشاف التجريبي في 1960، ثم أخذت الزيارات المتبادلة في التواتر، بدءًا بزيارة الأمير سلطان بن عبدالعزيز، لليابان في 1960، ثم زيارة الملك فيصل في 1977، وزيارة ولي عهد اليابان للسعودية في 1981، وزيارة الأمير نواف بن عبد العزيز، لها في 1990، ثم زيارة ولي عهد اليابان للسعودية في 1994.
وخلال زيارته للمملكة عام 1997، صاغ رئيس وزراء اليابان ريو تارو هاشيموتو مع الملك فهد الشراكة الشاملة نحو القرن الـ21، تلاها زيارة ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز لليابان في 1998، ووقع عام 2001 مع رئيس الوزراء الياباني ووزير خارجيتها أجندة التعاون السعودي الياباني التي اشتملت على ثلاثة محاور هي؛ تشجيع الحوار مع العالم الإسلامي، وتطوير مصادر المياه، والحوار السياسي الواسع المتعدد. وقد تعزز هذا التعاون بزيارة شنزو آبي للرياض في 2013، ولقائه الأمير سلمان بن عبدالعزيز، وامتد هذا التعاون أيضًا إلى المجال الأمني، وخاصة الأمن البحري، وأمن خطوط الملاحة البحرية، ومكافحة القرصنة، والإرهاب، وحظر الانتشار النووي.
وفي ظل هذا الإطار التعاوني، تشكلت (اللجنة السعودية اليابانية المشتركة)، و(مجلس الأعمال السعودي الياباني)، ووقع البلدان (اتفاقية تشجيع وحماية الاستثمارات المتبادلة). وفي 2015، كانت اليابان تحتفل بذكرى مرور 60 عاما على انطلاق العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وتعددت أوجه التعاون، وشملت؛ تخزين النفط السعودي في منشأة أوكيناوا اليابانية، والاستثمار في البتروكيماويات، ومصافي الطاقة، ومشروعات مشتركة في مجالات تكنولوجيا الطاقة المتجددة، وتنمية الموارد المائية، والتكنولوجيا النووية للاستخدامات السلمية.
ومع النمو المضطرد في العلاقات بين البلدين، اتفق ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، أثناء زيارته لليابان عام 2016، مع رئيس وزرائها شينزو آبي، على تشكيل رؤية مشتركة (الرؤية السعودية اليابانية 2030). وفي العام التالي، قام العاهل السعودي سلمان بن عبدالعزيز، بزيارة اليابان، حيث تم إطلاق هذه الرؤية، التي شملت 9 قطاعات هي: (الأمن الغذائي، الزراعة، الإعلام والترفيه، العناية الطبية، البنية التحتية ذات الجودة العالية، المال والاستثمار، الطاقة، بناء المنشآت الصغيرة والمتوسطة، الثقافة والرياضة والتعليم، الصناعة). ويشارك في هذه الرؤية جهات حكومية سعودية-يابانية، بعدد مشاريع مشتركة نحو 70 مشروعا. وفي يونيو 2019 كان الإصدار الأول لهذه الرؤية.
وارتباطًا بتنفيذها، وقع البلدان في منتدى الاستثمار السعودي الياباني، في ديسمبر 2022 بالرياض 15 اتفاقًا استثماريًا، في مجالات؛ (الذكاء الاصطناعي، والرياضة، والرقمنة، والمدن الذكية، والطاقة، والهيدروجين والأمونيا، والتمويل والخدمات المصرفية، وإعادة تدوير البوليستر، والزراعة والأغذية، والصناعة). ومن المعلوم، أن اليابان تستحوذ على نحو 50% من سوق السيارات السعودي، فيما تعد الأخيرة، أكبر موردي النفط لها بحصة سوقية تبلغ نحو 39% من حجم السوق، فيما بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 38 مليار دولار سنويًا قبل جائحة كورونا؛ تشكل منها الصادرات السعودية النسبة الأعلى بنحو 33 مليار دولار.
وبالنسبة للإمارات كوجهة لزيارة كيشيدا، فإن حجم التجارة اليابانية معها، قد ارتفع إلى 54 مليار دولار في عام 2022، محققًا زيادة بنسبة 58.7% عن 2021. وكما الحال في السعودية، فإن فائض الميزان التجاري مال لصالح أبوظبي، بقيمة 37.1 مليار دولار، واستحوذ التبادل التجاري بين البلدين على 39% من إجمالي التبادل التجاري بين طوكيو، ودول الشرق الأوسط، والذي بلغ 117.45 مليار دولار.
ومن الجدير بالذكر، أن افتتاح السفارة اليابانية في أبو ظبي، كان في أبريل 1974، وافتتاح سفارة الإمارات في طوكيو، كان في ديسمبر 1973، ومنذ ذلك التاريخ، تطورت العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وعقدا العديد من الاتفاقات الثنائية الداعمة. ويشمل التعاون الاقتصادي بينهما مجالات؛ (الطيران، والسياحة، والفضاء، والطاقة والصناعة، والتعليم، والخدمات الطبية والبيئة). وتعد الإمارات ثاني أكبر موردي النفط لليابان، فيما يعمل بها أكثر من 400 شركة يابانية، وقد تعزز التعاون بين البلدين منذ الإطلاق الأول للقمر الصناعي الإماراتي خليفة سات، من الموقع الياباني تانيفا شيما في 2018، متبوعًا بإطلاق أول مسبار كوكبي لها (مسبار الأمل)، إلى كوكب المريخ في يوليو 2020، والذي وصل مدار المريخ في 9 فبراير 2021.
على العموم، إذا كانت بوصلة الطاقة هي الموجه الرئيسي لليابان في علاقاتها الخليجية؛ فإن بوصلة التنمية هي الموجه الرئيسي لعلاقات الخليج اليابانية؛ فمدرسة التنمية اليابانية، هي ما سارت عليه دول آسيا التي حققت صعودًا خلال العقود الماضية، وفي مقدمتها دول النمور الآسيوية، والصين. وقد تجلت المعالم المتبادلة بين البوصلتين في (الرؤية المشتركة السعودية اليابانية 2030).
وفي إطار متابعتها، وإعطائها قوة دفع، وتعزيزها، تأتي زيارة كيشيدا لهذه الأقطار الخليجية الثلاثة، فيما تأمل الدول الخليجية أن تكون هذه الزيارة محطة رئيسية، ليس فقط في تأمين حصة مبيعات كبيرة من النفط والغاز، لكن أيضا في مشوارها التنموي الشامل الذي تحويه رؤاها الاقتصادية المستقبلية، بوتيرة أسرع مستثمرة سوق مواتية للطاقة، تكفل لها موارد تمكنها من هذه الوتيرة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك