هواجس الأمن تتصدر المشهد الدولي تصعيداً وتسليحاً واندفاعاً إلى المجهول.
العسكرة المفرطة تغلب أي حسابات واعتبارات أخرى. فأمام انسداد شبه كامل لأي أفق سياسي يخفّض كلفة الحرب الأوكرانية، تعلو لغة التجييش على الجانبَين في محاولة تكاد تكون مستحيلة لحسمها عسكريا.
احتمالات الحرب العالمية الثالثة غير مستبعدة، وأشباح النووي حاضرة في المشاهد المستجدة.
في قمة حلف شمال الأطلسي «الناتو»، التي التأمت في العاصمة اللتوانية فيلنيوس، أخذ الجنوح إلى التصعيد مداه.. وكانت ردة الفعل على الجانب الآخر من الصراع مماثلة.
بحسب تصريح لافت ليانس ستولتنبرج أمين عام «الناتو»: «الحلف لم يعد منظمة إقليمية للدفاع المشترك بين دول ضفتَي الأطلسي»، قاصداً أنه أصبح منظمة دولية يدخل في نطاقها الجغرافي بحر الصين الجنوبي والمحيطان الهندي والهادئ والشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
إنها عقيدة استراتيجية جديدة لـ«الناتو»، أعادت تعريفه ووسعت من نطاقه الجغرافي.
دخلت الصين على خط المساجلات الحادة، فالخطر يتهددها مباشرة، كما يفضي إلى توتير البيئة الدولية ويعيد أجواء الحرب الباردة، بحسب بيان لوزارة خارجيتها.
لم يكن «الناتو» بأي وقت محض منظمة إقليمية عبر ضفتَي الأطلسي، فقد امتدت أدواره بصورة مباشرة، أو غير مباشرة إلى الشرق الأوسط والبلقان في أزمات وحروب دامية.
الطابع العالمي لازم نشأة الحلف عام 1949، بعد أربع سنوات على نهاية الحرب العالمية الثانية، كذراع عسكرية جماعية للتحالف الغربي.
الولايات المتحدة بقدراتها العسكرية والاقتصادية الفائقة تولت مركز القيادة في الحلف من دون منازع، أدارته وفق تصوراتها ومصالحها الاستراتيجية باسم الدفاع عن الأمن الأوروبي والقيم والمبادئ الديمقراطية.
بعد ست سنوات أخرى (1955)، أنشئ حلف وارسو كذراع عسكرية جماعية لما كان يطلق عليها «المنظومة الاشتراكية» بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق.
بعد تفكك حلف وارسو إثر انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، انفردت الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي. وبإزاحة شبح «الخطر السوفياتي» عن الأمن الأوروبي لم يعد لـ«الناتو» أي أدوار يضطلع بها، لكنه أبقى عليه وبدأ البحث عن عدو جديد يبرر استمراره!
جرى رفض طلب روسيا بالانضمام الى الحلف، وبقيت موسكو رمزاً لخطر محتمل رغم التراجعات الفادحة في أوزانها السياسية وتخليها عن الأيديولوجية الماركسية.
لم تكن الحرب على الإرهاب مقنعة لبقاء الحلف العسكري المدجج بالأسلحة المتقدمة.
حاول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب التخفّف من التزاماته المالية الباهظة وتبنى شعار «الدفع مقابل الأمن».. وبدا «الناتو» كجثة في عرض الطريق تنتظر من يدفنها.
وجد خلفه، جو بايدن، في الأزمة الأوكرانية فرصة مواتية لإعادة بناء الحلف وتأكيد القيادة الأمريكية من جديد باسم الدفاع عن الأمن الأوروبي والقيم الغربية المشتركة.
جدير بالالتفات أن قمة «الناتو»، التي عقدت في العاصمة الرومانية بوخارست (2008) طرحت سؤال مستقبله؛ على خلفية مناوشات سياسية جرت بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش.
كانت تجربة الحرب على العراق ماثلة والفشل الذريع مؤكداً.
في الأجواء السلبية، التي خيّمت على قمة بوخارست، طرح السؤال الأوكراني نفسه، تنضم أو يؤجل انضمامها؟! جرى استبعاد سيناريو الضم؛ خشية إثارة غضب موسكو بالنظر إلى التعهد الذي قطع لها مقابل موافقتها على توحيد الألمانيتين، ألا يتوسع الناتو إلى حدودها المباشرة، أو تنشر فوقها منصات صواريخ تهدد أمنها.
كان ذلك قبل خمسة عشر عاماً. السؤال نفسه أعيد طرحه في قمة فيلنيوس.
رغم اختلاف المقاربات والتبريرات انتهت القمة الجديدة إلى استبعاد سيناريو الضم من جديد.
طرحت ثلاثة اشتراطات:
الأول، تحديث الجيش الأوكراني تسليحاً وتدريباً وتنظيماً وفق المواصفات الحديثة.
ناقض ذلك الشرط ما قررته القمة من ضمانات أمنية طويلة الأمد، ومساعدات عسكرية ضخمة لبناء قدرات دفاعية براً وبحراً وجواً تردع العدوان الروسي.
إذا ما قورن الجيش الأوكراني بجيش دولة صغيرة مثل فنلندا، جرى احتفاء زائد بانضمامها، فالتناقض يبدو فادحاً.
الثاني، رفع منسوب الالتزام بالديمقراطية ومحاربة الفساد.
بدوره لم يكن ذلك اشتراطاً مقنعاً، فهناك دول داخل الحلف يرتفع منسوب الفساد فيها عمّا هو جار في أوكرانيا، وتحيط شبهات قوية في مستوى التزامها الديمقراطي.
الثالث، أن يجري الضم بعد انتهاء الحرب، فإذا ما دخلت الحلف الآن فإن دوله ملزمة وفق المادة الخامسة من ميثاقه بإرسال قواتها إلى ميادين القتال، وهو ما لا تريده واشنطن، أو أي عاصمة أوروبية أخرى مهما تشدد خطابها.
هذه هي الحقيقة دون مساحيق تجميل، أو ادعاءات مشكوك فيها.
وفق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن أحد أسبابه للتدخل العسكري في أوكرانيا منعها من الانضمام إلى «الناتو».
في تصريحاته لم يأبه لإمدادات السلاح الضخمة التي تعهد بها الحلف، فهي «لن تغير شيئاً في ميادين القتال».
الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي أبدى خيبة أمله من عدم انضمام بلاده إلى الحلف وغياب أي جدول زمني لمثل هذا الانضمام، لكنه وجد نفسه مضطراً إلى التعبير عن رضاه بمخرجات القمة والتعهدات العسكرية التي بذلت فيها.
بعض التعهدات مثيرة للالتفات، كأن تحصل أوكرانيا على ضمانات أمنية تماثل ما لدى إسرائيل.
ما المقصود بالضبط بهذه الضمانات الأمنية؟!
هناك فارق جوهري بين أن تكون الضمانات متعارف عليها سارية ومختبرة وبين أن تكون مكتوبة وملزمة. في قمة «الناتو» تبدت تباينات وصفقات سياسية أقرب إلى المراوغات للملمة الشروخ الظاهرة.
من أهم الصفقات المراوغة الوعد الأمريكي الذي بذل لتركيا بالانضمام مستقبلاً إلى الاتحاد الأوروبي مقابل عدم ممانعتها في انضمام السويد إلى الحلف.. وهو وعد لم يلتزم به الأوروبيون أنفسهم!
كانت زيارة الرئيس الأمريكي لفنلندا العضو الجديد في الناتو، عقب انتهاء القمة، تعبيراً عن إدراك ضرورات الشراكة مع دول الشمال الأوروبي في إحكام الحصار على روسيا.
ضم السويد ينهي مائتي سنة من الحياد ويفتح المجال لإعادة ترتيب الشمال الأوروبي باسم الأمن المشترك. وفق بايدن، السلم الأوروبي مرتبط بالأمن الأمريكي.
على الجانب الآخر، يرى الكرملين في ذلك التطور انتقاصاً خطيراً من الأمن الأوروبي، وأن الرد لن يتأخر طويلاً.
العسكرة المفرطة وصلت إلى خروق فادحة في قواعد الاشتباك، مثل إمداد كييف بطائرات (F16)، وتعهد دول أوروبية عديدة بتدريب الطيارين الأوكرانيين، وتزويد آلتها العسكرية بقنابل عنقودية، ما قد يدعو موسكو كما هددت أن ترد بما هو متوافر لديها من نفس الأسلحة المحرمة.
نحن أمام فصل جديد من الصراع على مستقبل النظام الدولي باعتبارات القوة وحدها، الذرائع والحيثيات الأخرى صارت على الهامش لا في صلب الصراع.
{ كاتب صحفي مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك