لجنتان فنيتان تابعتان لمنظمات الأمم المتحدة تقومان بدراسة قضية صحية واحدة، ولكن تخرجان بنتيجتين مختلفتين، وتتخذان تبعاً لذلك قرارين غير متطابقين.
أما القضية التي كانت موضع الدراسة والنقاش بين الخبراء المختصين في مجال المواد السرطانية والأبعاد الصحية للمضافات الغذائية، فهي القضية التي تمت إثارتها في 13 يوليو 2023، وأحدثت ضجة دولية على جميع المستويات من مختصين وعلماء ووسائل الإعلام، ومن بين عامة الشعوب والبسطاء من الناس.
هذه القضية الدولية الصحية تتمثل في المخاطر الصحية، وبالتحديد مخاطر الإصابة بالسرطان من مادة «الأسبرتيم» (Aspartame) التي تضاف إلى المئات من المواد الغذائية منذ الثمانينيات من القرن المنصرم بدلاً من السكر الطبيعي، لإعطائها الطعم الحلو، والمذاق المستساغ لدى جميع الناس، ولكن من دون أن تكون لها أي سعرات حرارية. فهذا النوع من السكر الصناعي يعد الأكثر شيوعاً، وأكثر حلاوة من السكر الطبيعي بنحو 200 مرة، ويوجد في الآلاف من المنتجات الغذائية، منها على سبيل المثال لا الحصر، المشروبات الغازية، الروب، الآيسكريم، وبعض الأدوية كأدوية الكحة والتهاب البلاعيم، ومعجون الأسنان، والقهوة، والعلكة، ويباع تحت مسميات متعددة منها: (Sugar Twin)، أو (Equal) أو (NutraSweet).
أما الفريق الدولي الأول فهو الذراع العلمي البحثي لمنظمة الصحة العالمية والمختص بأبحاث السرطان، وهي الوكالة الدولية لأبحاث السرطان. فهذه الوكالة أعادت تصنيف مادة الأسبرتيم ضمن المجموعة 2ب (2B)، أي «من المحتمل أن تكون مسرطنة للبشر» (possibly carcinogenic to humans)، حيث تحتوي هذه المجموعة على 323 مادة، علماً بأن المجموعة الأولى في هذا التصنيف الدولي هي المواد التي تُصنف بأنها «مسرطنة للبشر»، وتحتوي على 126 مادة مسرطنة، منها المشروبات الكحولية، والتدخين، وعوادم السيارات، وتلوث الهواء، وأشعة إكس، والمجموعة 2أ(2A) هي المواد التي «من الممكن أن تكون مسرطنة للبشر» وتتكون من 95 مادة، والمجموعة رقم 3، وهي الرابعة والأخيرة، فهي المواد «غير المصنفة بأنها مسرطنة للبشر». فهذا التصنيف الجديد للسكر الصناعي يقع في أدنى مجموعة للمواد التي يُشتبه أن تكون مسرطنة للبشر، وهي الأقل احتمالاً وإمكانية للإصابة بالسرطان، ويرجع السبب في هذا التصنيف، بحسب رأي اللجنة هو محدودية الأدلة حول مخاطر الأسبرتيم.
والفريق الثاني الذي أعلن رأياً مخالفاً للفريق الأول من الخبراء، فيتكون من مجموعة مشتركة من الخبراء يمثلون منظمة الصحة العالمية ومنظمة الغذاء والزراعة (الفاو) ( Joint Expert Committee on Food Additives)، وتهدف إلى تقييم المخاطر التي تسببها المضافات الغذائية للبشر على مدى فترة طويلة من الزمن، فتقيِّم علاقة استهلاكها والكمية التي يتناولها الإنسان على مدى الحياة بمخاطر الإصابة بالسرطان. وقد أعلنت هذه اللجنة بأنه: «لا توجد أدلة مقنعة من التجارب المخبرية، أو على البشر تُشير إلى أن الأسبرتيم لها تأثيرات ضارة عند تناولها في حدود المواصفات التي وضعتها اللجنة السابقة عام 1981، وهي أقل من 40 مليجراماً لكل كيلوجرام من جسم الإنسان في اليوم الواحد». وهذه المواصفة تعني أن الإنسان الذي وزنه 60 كيلوجراماً فإنه يستطيع أن يتناول كمية من الأسبرتيم تصل إلى 2400 مليجرام في اليوم، أي معدل 12 علبة من المشروبات الغازية التي تحتوي على الأسبرتيم.
فقرار هذه اللجنة الثنائية يشير إلى أن الاستهلاك المنخفض والقليل من الأسبرتيم يعد آمناً ولا يسبب أي مشكلة صحية، فلا مخاطر للإصابة بالسرطان عند استهلاكها باعتدال، ولكن في الوقت نفسه، دعت اللجنة إلى إجراء المزيد من الدراسات والأبحاث والتقييم العلمي لهذه المادة.
وفي الحقيقة، فإن هناك مجموعة من الأبحاث حول مخاطر الأسبرتيم واحتمالية تعرض الإنسان لمرض السرطان أو المخاطر الصحية الأخرى. فهناك دراسة نُشرت في مجلة (PLOS Medicine) في 24 مارس عام 2022 تحت عنوان: «السكر الصناعي ومخاطر السرطان: نتائج دراسة سكانية فرنسية»، وأُجريت في فرنسا لمدة 8 سنوات، واستنتجت أن الذين يستخدمون الأسبرتيم أو النوع الثاني من السكر الصناعي (acesulfame-K) تزيد عندهم نسبة مخاطر الإصابة بالسرطان 15% مقارنة بغيرهم، وبالتحديد سرطان الثدي وأنواع السرطان التي لها علاقة بالبدانة.
ودراسة ثانية في مجلة (Nature Medicine) منشورة في 27 فبراير 2023 تحت عنوان: «السكر الصناعي ومخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية القلبية»، حيث قامت بدراسة العلاقة بين تناول أحد أنواع السكر الصناعي (erythritol) والإصابة بأمراض القلب، حيث أشارت إلى أن هذه السكريات ترفع من مخاطر التعرض لأمراض القلب.
كما نشرتْ منظمة الصحة العالمية تقريراً في 12 أبريل 2022 تحت عنوان: «التأثيرات الصحية لاستخدام السكر الصناعي: مراجعة منهجية للدراسات السابقة»، وأفاد التقرير بأن تناول السكر الصناعي لا دور له في خفض الوزن على المدى البعيد، بل وإن الإفراط في استهلاكه يزيد من مخاطر الإصابة بالسكري من النوع الثاني، وأمراض القلب، ويؤدي إلى الموت المبكر. واستناداً إلى هذا التقرير فإن منظمة الصحة العالمية لا تدعو المصانع إلى إزالة السكر الصناعي من المنتجات الغذائية، وإنما تدعو إلى الاعتدال في استهلاكه، واستخدام البدائل المتاحة التي لا يوجد بها أي نوع من أنواع السكر الصناعي.
وختاماً فإن هناك نقاطاً أود التطرق إليها. النقطة الأولى هي حدوث تغيير في رأي الفريق المختص بمنظمة الصحة العالمية، حيث صنَّفت الآن الأسبرتيم كمادة من المحتمل أن تكون مسرطنة للبشر، أي أن هناك شبهة صحية تحوم حولها، وقد تُقدِّم الدراسات المستقبلية أدلة قوية أكثر على مخاطرها الصحية المتعلقة بالسرطان. وأما الثانية فهي أن الإنسان ارتكب أخطاءً كثيرة في الماضي، ومازال يقع في الأخطاء نفسها حول تصنيفه للمواد كنافعة للبشر، أو ضارة صحياً، فالشركات الكبرى المُصنعة للمنتجات عامة لا يهمها صحة البشر، وإنما الربح السريع والكبير، وتقوم بكل الوسائل والطرق المغرية بتلميع منتجاتها وجذبها للناس. فعلى سبيل المثال، أَدْخل الإنسان إلى بيئته المبيد الحشري المعروف «دي دي تي»، واعتبره أفضل وأحسن مبيد للقضاء على البعوض وتجنيب البشر الإصابة بالملاريا، ثم بعد عقود من رش هذا المبيد في كل شبر من الكرة الأرضية، اكتشف أنه سام جداً للحياة الفطرية ويؤدي إلى انقراضها، كما تحقق من خلال التحاليل المخبرية أن المبيد نفسه انتقل إلى كل عضو من أعضاء جسم الإنسان، حتى أن حليب الأم تلوث بالمبيد، فقام نتيجة لذلك بحظر استخدامه بعد أن انتشر السم في البشر والحجر والشجر. كذلك أدخل الإنسان إلى الأسواق الآلاف من المنتجات التي تحتوي على مركبات عضوية متعددة الفلورين، واعتبرها المواد الأعجوبة السحرية لخواصها الفريدة، فاكتشف بعد سنوات بأنها تفسد طبقة الأوزون وتؤثر على استدامة حياة الإنسان على وجه الأرض، كما اكتشف أن هذه المواد المستقرة والثابتة والتي لا تتحلل أصبحت جزءاً من كل عناصر البيئة، بل وجزءاً من أعضاء جسم الإنسان وتسبب له مشكلات صحية. وهذا الأسبرتيم الآن قد يكون المادة الضارة القادمة التي يكتشف العلماء بأنها دمَّرت صحة البشر، ولكن قد يكون بعد فوات الأوان وبعد أن وقع الضرر وانتشر.
والنقطة الثالثة فاحذر من عبارة «خالية من السكر»، فالمقصود منها خالية من السكر الطبيعي، ولكنها تحتوي على كميات، قد تكون كبيرة من أحد أنواع السكر الصناعي، كالأسبرتيم وغيره، ولذلك إذا كان لا بد من تناولها فعليك الاعتدال في الاستهلاك وتجنبها كلما أمكن ذلك.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك