طبقًا لـ«منظمة الأرصاد الجوية العالمية»، يعد الأسبوع الأول من يوليو 2023، هو الأكثر سخونة على الإطلاق، وقد صاحب هذا الاحترار اندلاع حرائق الغابات في العديد من مناطق العالم، الأمر الذي يرسل إنذارات قوية، بشأن التغيرات المناخية، التي يجب التعامل معها بجدية، واتخاذ ما يلزم من إجراءات بشأنها.
وبسبب ظاهرة الاحتباس الحراري، تجتاح موجة حر شديدة أنحاء أوروبا، مع تجاوز الحرارة 40 درجة مئوية، طبقًا لـ وكالة الفضاء الأوروبية، مع توقع أن تسجل هذه الحرارة رقمًا قياسيًا، يتجاوز الرقم المسجل في 2021 والبالغ 48.8 درجة مئوية. ونتيجة لذلك، أصدرت السلطات الإيطالية للسكان إنذارًا باللون الأحمر، كما تم إغلاق موقع أكروبولس، أشهر المواقع السياحية اليونانية، فيما تشهد إسبانيا موجة حرائق في العديد من أقاليم البلاد هي الأسوأ في تاريخها، وتسببت موجة الحر العام الماضي في أوروبا في وفاة نحو 61 ألف شخص.
ومن أوروبا امتد الاحترار إلى المكسيك، والولايات المتحدة، وكندا. وشهدت ولاية أريزونا، الأمريكية، ارتفاعًا في درجة الحرارة إلى 46 درجة مئوية، فيما أكدت الإدارة الوطنية الأمريكية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي، أن صيف هذا العام قد سجل أعلى درجات حرارة منذ 136 عاما. وفي يونيو الماضي، شهدت كندا، أكثر موجات حرائق الغابات تدميرًا في تاريخها، وانتشر دخان هذه الحرائق إلى الولايات المتحدة، ودمرت الغابات مساحة نحو 100 ألف كم2؛ أي ما يعادل مساحة آيسلندا، كما امتد الاحترار إلى الصين، وأحدث أضرارًا بالغة بمحصول القطن، ووصل إلى اليابان، متسببًا في حرائق واسعة في بعض المناطق، وأمطار غزيرة في مناطق أخرى، فيما تسبب ارتفاع درجات الحرارة في الهند، إلى وفاة العشرات.
وفي الدول العربية، وصلت درجة الحرارة في الجزائر إلى 50 درجة مئوية وفي تونس إلى 57.3 درجة مئوية، كما عانت الأخيرة من انخفاض هطول الأمطار بنسبة 80% ، وكان شهر مارس الماضي أكثر شهور مارس السالفة جفافًا منذ 1980. وبسبب موجة الحر اندلعت حرائق في محافظتي جرش وعجلون بالأردن، وفي قرية أبل جنوب لبنان، فيما امتدت الحرائق إلى غابة آل شريف شمال المغرب، وأتلفت أكثر من ألفي هكتار غابات، وسجلت مناطق مثل العراق، والكويت، أكثر من 50 درجة مئوية، وشمل ارتفاع درجات الحرارة كل دول مجلس التعاون الخليجي.
وبسبب الاحترار العالمي تزايدت احتمالات تعرض نطاقات رئيسية لإنتاج الغذاء في مناطق مثل أمريكا الشمالية وأوروبا الشرقية لفشل المحاصيل، حيث يؤدي هذا الاحترار إلى زيادة تواتر وشدة الظواهر الجوية المتطرفة، واحتمال حدوثها في وقت واحد حول العالم، ما يؤدي إلى انخفاض المحاصيل في العديد من مناطق القمح الرئيسية في وقت واحد؛ ومن ثمّ فإن البلاد التي تعتمد بشكل كبير على الاستيراد، قد تعاني من انعدام الأمن الغذائي المتزايد، إذ يمكن أن يحدث في هذه الحالة حظر تصدير نتيجة الندرة. الجدير بالذكر أن مناطق سلة الخبز العالمية، مثل وسط الولايات المتحدة، وأوروبا الشرقية كانت تقع في المناطق المناخية المعتدلة، ولكنها غدت الآن عرضة للتغيرات المناخية المتطرفة ما يهدد إنتاجها.
وفي إدراك لأهمية هذه القضية، حدرت منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو)، من تأثير التغيرات المناخية السلبي على الغذاء العالمي خاصة الأنواع النباتية والحيوانية، والكائنات الحية الدقيقة الداخلة في النظام الغذائي. ويؤدي التغير المناخي إلى تدهور التنوع البيولوجي، ما يؤدي إلى تفشي الأمراض والآفات، ومن ثمّ، الانخفاض الكبير في الإنتاج. ووجدت الفاو، أن تدهور التنوع البيولوجي في المنطقة العربية قد بات واضحًا، وأن دولة مثل سلطنة عُمان، قد غدت عرضة لفقدان الكثير من أنواعها النباتية البرية، مثل التين والتوت؛ بسبب تغير المناخ، وارتفاع درجات الحرارة وانتشار الآفات والأمراض. وبينت الدراسات الحديثة أن استمرار انبعاث الغازات الدفيئة بمعدلها الحالي سيؤدي إلى اختفاء ما بين نصف وثلثي الحشرات، وأكثر من 40% من الثدييات الموجودة حاليًا.
وفيما غدا الاحترار أيضًا مهددًا لثروة الخليج السمكية، التي تعد من أهم المقومات الذاتية لأمنها الغذائي، فضلا عن الصيد المفرط، والتوسع الحضري، وارتفاع الملوحة والصرف غير المعالج، التي تعد مهددات أخرى؛ فإنه خلال فصل الصيف يصبح الخليج العربي أكثر البحار حرارة على كوكب الأرض، خاصة في حوضه الجنوبي الضحل، حيث ترتفع حرارة سطح البحر إلى 35 درجة مئوية. ومنذ الثمانينيات، زادت حرارة سطح البحر في الخليج بمقدار 0.4 درجة مئوية كل 10 سنوات، بما يساوي ضعف المتوسط العالمي، ما ترتب عليه تدهور كبير في النظم البحرية، وطال الضرر الشعب المرجانية، حيث تلاشى أكثر من 70% منها، وصارت كل أنواع الأسماك المعتمدة عليها عرضة للخطر، كما أثرت الحرارة المرتفعة على أنماط التفريخ الموسمية للأسماك الزعنفية ذات الأهمية التجارية للسكان، كما يؤدي الاحترار أيضًا إلى تكاثر أنوع الطحالب المسببة لنفوق الأسماك.
وإدراكا منها لذلك، أخذت دول مجلس التعاون الخليجي، في التنبه لمخاطر التغيرات المناخية، وسعت لمعالجة آثارها، وتحقيقا لهذه الغاية، تستضيف الإمارات العربية المتحدة، في نهاية العام الجاري مؤتمر الأمم المتحدة لمواجهة التغيرات المناخية في نسخته 28. علاوة على ذلك، كان حضور دول الخليج، واضحًا ومؤثرًا، في نسخته السابقة في شرم الشيخ بمصر، حيث وضعت كل منها مستهدفًا زمنيًا للحياد الكربوني، وخططًا تفصيلية للوصول إلى هذا الهدف.
وبشكل كبير، تتعرض دول الخليج للعديد من التحديات المناخية، مثل التصحر، وخسارة التنوع البيولوجي، وندرة المياه، وارتفاع مستوى سطح البحر، فيما يؤدي الاحترار الشديد إلى أن مناطق في دول الخليج، قد تغدو غير صالحة للعيش فيها. وبحسب البنك الدولي، فإنه ما بين 80 – 100 مليون شخص في الشرق الأوسط والخليج، سيتعرضون لنقص شديد في المياه، كما أن أزمات الأمن الغذائي في المنطقة معرضة للتفاقم؛ بسبب انكماش الثروة المائية والزراعة.
وعلى وجه الخصوص، أشار البنك الدولي، إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي معرضة لقدوم هجرات بشرية واسعة إليها من المناطق الأكثر تضررًا بالتغيرات المناخية، معظمها من دول جنوب شرقي آسيا. وكإجراء استباقي لمنع هذا الاحتمال، تطور دول الخليج سياساتها التعاونية مع منظمة الآسيان، من خلال اللقاءات المشتركة بين مجلس التعاون، وهذه المنظمة، وتزايد الاهتمامات الخليجية بالاستثمار لدى دول هذه المنطقة، وتشهد قمة المجلس والآسيان في نهاية العام الحالي -وهي الأول من نوعها- تقوية مجالات هذا التعاون.
وكما تسعى هذه الدول إلى زيادة الاعتماد على الطاقة النظيفة، وضخت مليارات الدولارات من الاستثمارات في تطوير الطاقة المتجددة -التي زادت كمياتها المولدة بنحو 7 أضعاف بين عامي 2016–2021- فإنها تدعم جهود المجتمع الدولي لمواجهة التحديات الكبرى المتعلقة بالتغيرات المناخية، وتسعى من خلال كوب28 للانتقال بالعمل المناخي الدولي من المفاوضات إلى إيجاد، وتطبيق حلول منطقية وعملية لتداعيات تغير المناخ، وتتطلع إلى إجراء أول حصيلة عالمية لتقييم التقدم العالمي المحرز نحو تنفيذ أهداف اتفاق باريس، وعلى رأسها تفعيل صندوق معالجة الخسائر والأضرار. فيما شملت جهودها في مكافحة التغير المناخي، اعتماد نهج الاقتصاد الدائري للكربون، الذي يعد إطارًا شاملاً، لمعالجة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وإدارتها من خلال 4 محاور هي؛ خفض الانبعاثات، إعادة استعمالها، إعادة تدويرها، وإزالتها.
وفي اجتماع عبر تقنية الاتصال المرئي بين الوزراء المسؤولين عن التغير المناخي في دول المجلس يوم 13 يونيو الماضي، شددوا على ضرورة التركيز على المجالات الحيوية التي تؤثر على القدرة على التكيف مع آثار تغير المناخي، مثل مكافحة التصحر، والحد من العواصف الرملية والغبارية، وتعزيز الأمن الغذائي، والتشجير، وتحسين استعمال الأراضي، وإدارة المياه، وحماية التنوع البيولوجي، والنظم البيئية، والصحة، فيما رحبت دول المجلس بمبادرتي السعودية الخضراء، والشرق الأوسط الأخضر، وعدتها نماذج فعالة لمواجهة تغير المناخ.
وفيما تعتمد دول الخليج على استيراد معظم احتياجاتها الغذائية -ترتفع هذه النسبة في قطر والإمارات إلى ما بين 80–90%- فقد قامت بعقد شراكات زراعية مع دول أخرى، وجهت إليها استثمارات كبيرة، كما غدت شريكا تجاريا مهما في قطاع الأغذية والزراعة مع الاتحاد الأوروبي، غير أنها في الوقت نفسه قد استفادت من درس الاضطرابات في سلاسل الإمداد الغذائي الناجمة عن جائحة كورونا، والحرب الأوكرانية في تعزيز الاهتمام بالاستثمار في التكنولوجيا الزراعية الداعمة للطاقة الإنتاجية المحلية، ما يؤدي إلى تقليل اعتمادها على الواردات.
وللتدليل على ذلك، قطعت الإمارات، شوطًا كبيرًا في هذا الأمر، وفي عام 2017 تم تعيين مريم بنت محمد سعيد المهيري، وزير الدولة للأمن الغذائي، وفي 2018 أطلقت الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي، التي استهدفت أن تكون أبوظبي الأفضل عالميًا في مؤشر الأمن الغذائي العالمي بحلول 2051، كما اعتمدت تنويع أساليب الزراعة قليلة الاعتماد على المياه والتربة الخصبة، ودعمت وزارة التغير المناخي والبيئة، استخدام التكنولوجيا المائية المعتمدة على استخدام المياه الغنية بالمغذيات اللازمة لنمو النبات دون تربة، والتي توفر ما بين 70–90% من المياه، كما توفر نحو 99% من مساحة الأرض المطلوبة للزراعة، وبتكلفة قريبة من تكلفة الزراعة التقليدية في أرض خصبة.
واستمرارا، اعتمدت نظام الزراعة العمودية، بشكل آلي بالكامل. وفي 15 فبراير الماضي دشنت وزيرة التغير المناخي والبيئة، أكبر مزرعة في العالم للزراعة العمودية في أبوظبي، كما تحاول زيادة الاعتماد على الزراعة الملحية، التي تعتمد على استصلاح وإعادة استخدام الأراضي الزراعية المتدهورة من خلال زراعة سلالات تتقبل المياه المالحة، فيما تعد الدولة الثانية عالميًا في تحلية المياه، حيث تصل السعة الإجمالية حاليًا إلى 2.2 مليون جالون يوميًا.
علاوة على ذلك، تهدف استراتيجية الأمن المائي 2036، في الإمارات إلى خفض إجمالي الطلب على المياه بنسبة 21%، مع تحقيق إعادة استخدام 95% من المياه، وإلى هذا تفوقت على المتوسط العالمي لكفاية الإمدادات الغذائية للسكان البالغ 124%، بتحقيقها متوسط 133% لسكانها مواطنين ومقيمين. وفي الربع الثاني من عام 2022، جاءت في صدارة دول الخليج في مؤشر الأمن الغذائي العالمي، وحلت في المرتبة 26 عالميًا، تلتها قطر في المرتبة 29، ثم البحرين، في المرتبة 30، ثم عُمان، في المرتبة 41، ثم السعودية، في المرتبة 44، ثم الكويت، في المرتبة 47.
على العموم، فإنه في مواجهة التغيرات المناخية، تعددت مسارات سياسات تحقيق الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي، كالاستثمار الزراعي في مناطق جغرافية مختلفة حول العالم، وتأمين مصادر إمدادها، فضلاً عن الاحتفاظ بمخزون غذائي كبير يكفي سكانها لفترة طويلة من العام، فيما أصبح يتقدم هذه السياسات في الآونة الأخيرة، ترويض التكنولوجيا المتقدمة في تطوير إمكاناتها الذاتية، واشتملت رؤاها المستقبلية على بناء وتطوير قطاع زراعي مستدام، وتعزيز الصناعات الداعمة للنظم الغذائية، وتحسين الإنتاجية الزراعية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك