بدءاً من الأول من يوليو 2023 إلى الثلاثين من سبتمبر ستقوم شركات التبغ الكبرى الأمريكية والمتعددة الجنسيات والمعروفة بالتبغ الكبير(Big Tobacco) بوضع إعلانات عامة كبيرة وواضحة في مواقع بارزة سيراها كل إنسان في 220 ألف محل تجاري يبيع السجائر في أرجاء الولايات الأمريكية كافة، إضافة إلى شراء صفحات إعلانية في كبريات الصحف الأمريكية الواسعة الانتشار لنشر هذه الإعلانات.
والإعلانات هذه المرَّة لن تكون كما تعودنا سابقاً للتسويق لمنتجات التبغ والسجائر بمختلف أشكالها وأنواعها، ولن تكون من أجل تلميع صورتها للشعب الأمريكي خاصة ولشعوب العالم أجمع، كما كانت تفعل طوال قرنٍ من الزمان، ولكن هذه المرة ستُعْلِن فيها هذه الشركات بنفسها وبتوقيعها فضائحها وممارساتها الشيطانية التي كانت تقوم بها طوال تلك السنوات العقيمة، وستعترف رسمياً في وضح النهار بتحايلها وتضليل الشعوب والكذب الفاضح عليها حول سُمية منتجاتها ودورها في إسقاط مئات الملايين من الناس في الأمراض العقيمة المزمنة المستعصية على العلاج ثم الموت المبكر، سواء للمدخن نفسه أو للجالسين حوله وبالقرب منه، والذي يُطلق عليه بالتدخين السلبي.
وهذه الإعلانات التي ستضعها هذه الشركات أمام العالمين ستستمر في مواقعها مدة سنتين، أي حتى 30 يونيو 2025 وباللغتين الإنجليزية والإسبانية، وهي ليست طواعية ورغبة منها، أو تأنيباً للضمير الذي مات منذ قرون عمَّا قامت به سنوات طويلة من قتلٍ متعمد، تدريجي وبطيء للملايين من البشر حول العالم، وإنما ستضعها وهي مضطرة رغماً عن أنفها وبأوامر صارمة من المحكمة الاتحادية في العاصمة واشنطن دي سي.
وقد تمخضت هذه الاعترافات الجبرية المعلنة من قبل شركات التبغ عن مخاضٍ عسير وطويل من المرافعات والمداولات القانونية في محكمة اتحادية في العاصمة الأمريكية واشنطن «دي سي»، حيث بدأت ساعة المخاض الأولى عندما قامت وزارة العدل في 22 سبتمبر 1999 في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون برفع دعوى قضائية مستندة على الآلاف من الدعاوى والشكاوى من الأفراد، والجمعيات والمنظمات الأهلية، والولايات الأمريكية منذ عقود من الزمن ضد شركات التدخين الكبرى، فكانت ولادة قرار المحكمة صعبة ومعقدة، حيث إنه استغرق أكثر من سبع سنوات ماراثونية من الصراع المحتدم المرير، والمواجهة العلنية الشاقة مع شركات التبغ ذات النفوذ والقوة، فهي لم تستسلم ولم تقع على الأرض صريعة من أول ضربة، ولم ترفع فوراً العلم الأبيض لإعلان خسارتها، فهي قاومت وبضراوة وتحد حتى الرمق الأخير من المحاكمة عندما أعلنت القاضية المعنية قرارها النهائي في 18 أغسطس 2006، وجاء القرار في وثيقة تحتوي على 1653 صفحة.
وقد اختتمت القاضية قرارها بهذه الفقرة الحاسمة، مما يدل على قوة ومصداقية الأدلة التي قَدمتها وزارة العدل التي جاء فيها: «على مدار أكثر من 50 عاماً كَذب المدعى عليهم (أي شركات التبغ)، وشوهوا، وخدعوا الجمهور الأمريكي، بمن في ذلك المدخنون والشباب الذين سعوا بشغف ليكونوا مدخنين بديلين، حول الآثار الصحية المدمرة للتدخين ودخان التبغ. لقد قمعوا الأبحاث، أتلفوا الوثائق، وتلاعبوا في استخدام النيكوتين من أجل زيادة الإدمان، وشوهوا الحقيقة المتعلقة بالسجائر المنخفضة القطران والخفيفة من أجل عدم تشجيع المدخنين على العزوف، وأساؤوا استخدام النظام القانوني من أجل تحقيق هدفهم لكسب المال من دون وضع أي اعتبار لمرض الناس ومعاناتهم، أو لارتفاع التكاليف الصحية، أو نزاهة النظام القانوني». كما أضافت القاضية في قرارها: «وبالرغم من ذلك فإن هذه الشركات مازالت تُنفق المليارات لخداع الناس لتسويق السجائر ومحاربة السياسات والقوانين الحكومية التي تهدف إلى خفض أعداد ونسبة المدخنين».
وقد جاء في البند الأخير من قرار المحكمة الذي يجب على شركات التبغ تنفيذه كخطوة أخيرة قبل إغلاق الملف، وهو الاعتراف الواضح أمام الشعب الأمريكي كله بالمخاطر الصحية القاتلة للتدخين والحقائق الأخرى المتعلقة به، إضافة إلى مخاطر التدخين السلبي التي لا تختلف كثيراً عن التهديدات الصحية الناجمة عن التدخين مباشرة.
وبند الاعتراف والإعلان الرسمي بالجرائم التي ارتكبتها الشركات ضد الإنسانية تضمن الموافقة مسبقاً واعتماد صياغات واضحة تصحيحية للمفاهيم والأفكار الخاطئة والمضللة التي كانت تبثها وتسوقها هذه الشركات حول التدخين عامة، منها ما يلي:
أولاً: «التدخين يقتل بمعدل 1200 أمريكي كل يوم».
ثانياً: «التدخين السلبي يقتل أكثر من 38 ألف أمريكي سنوياً».
ثالثاً: «الوفيات من التدخين سنوياً أكثر من جرائم القتل والإيدز والمخدرات وحوادث الطرق والكحول معاً».
رابعاً: «شركات التدخين تعمَّدت تصميم سجائر تحتوي على كميات كافية من النيكوتين للإصابة بالإدمان».
خامساً: «كل السجائر تسبب السرطان، وأمراض الرئة، والنوبة القلبية، والموت المبكر. لا توجد سجائر آمنة».
وبالرغم من هذه الجهود التي تبذلها الحكومات والمنظمات لكبح جماح شركات التبغ، فإنها مازالت نشطة، وفاعلة، ومؤثرة، ومبدعة في منتجاتها، ومنكرة في الوقت نفسه الأضرار الصحية لهذه المنتجات الجديدة، فكلما أُغلق أمامها باب، قامت بفتح باب آخر تحت مسمى حديث، ومظهر جذاب ومغرٍ للشباب والأطفال خاصة، كالسجائر الإلكترونية، ولذلك فالوفيات والأمراض من التدخين بكل صوره وأشكاله مازالت مستمرة، وقد نَشَرتْ مجلة «الطبيعة» في 7 يونيو 2023 دراسة أفادت فيها بأن نحو 14% من الوفيات حول العالم في عام 2019 كان سببها التدخين، فهذه آفة شرسة ضاربة أطنابها في المجتمع، وتقف وراءها شركات متنفذة وقوية مالياً، وسياسياً ومتغلغلة بعمق في معظم دول العالم.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك