خلال المقال السابق أشرت إلى خلاصة المناقشات التي شهدها المؤتمر الأول الذي نظمه مركز دراسات تحليل العلاقات الدولية بأذربيجان وشاركت فيه كمتحدث في 5 يوليو 2023 بعنوان «الارتباط بين الشرق الأوسط والقوقاز: الأمن والتعاون»، وكانت خلاصة الجلستين الأولى والثانية هي حتمية التواصل بين منطقة القوقاز والشرق الأوسط ضمن أطر تعاون مستدام، فما القواسم المشتركة بين الجانبين وكيف يمكن ترجمتها إلى أطر عملية للتعاون المستدام بينهما؟ قدمت الجلسة الثالثة والأخيرة إجابات عن تلك التساؤلات، فإذا كانت هناك قواسم مشتركة هي مضامين تاريخية وأبعاد جغرافية ومتطلبات مصلحية تحتم تطوير تلك العلاقات، ففي اتجاه يجب أن تكون؟ وقبيل الإجابة عن ذلك التساؤل لا بد من تأكيد ثلاثة مداخل مهمة لذلك التعاون، أولها: أنه من بين التداعيات التي رتبتها التحولات التي يشهدها العالم نتيجة الحرب في أوكرانيا فكرة الحوارات بين الأقاليم أو بالأحرى التعاون عبر الأقاليم وهي تطبيق لمضامين الإقليمية الجديدة، بمعنى آخر أن احتدام الصراع الدولي قد أتاح الفرصة مجدداً للدول الصغيرة والمتوسطة للتعاون عبر الأقاليم، وثانيها: على الرغم من البعد الجغرافي نسبياً لدول الخليج العربي كجزء من منطقة الشرق الأوسط عن منطقة القوقاز، فإن هناك دولتين من جنوب القوقاز تعدان دول جوار مباشر أيضاً لدول الخليج العربي وهما تركيا وإيران، وثالثها: تأثير التنافس والصراع العالمي على كلتا المنطقتين بشكل واضح للترابط الجيواستراتيجي بينهما.
وانطلاقاً من تلك المداخل، فقد دار النقاش حول عدة مجالات للتعاون من بينها المجال الاقتصادي وخاصة الاستثمارات في قطاعات الطاقة المتجددة التي توليها دول الخليج العربي أهمية بالغة ضمن خطط التنمية المستدامة وهي القضية ذات الاهتمام لدى أذربيجان في الوقت ذاته، إلا أنه ومع أهمية الاستثمارات الخليجية في أذربيجان على سبيل المثال وخاصة لكل من دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية الآخذة في التزايد، فإن هناك حاجة إلى مزيد من الاستقرار في جنوب القوقاز من أجل زيادة تلك الاستثمارات كجزء من مضامين الخطط التنموية لدول الخليج العربي التي تستهدف تنويع مصادر الدخل بعيداً عن النفط وهو الأمر ذاته الذي تستهدفه أذربيجان، فضلاً عن أهمية دعم مقترحات مهمة أخرى منها مشروع «طريق التنمية الاستراتيجي»، الذي يربط مدينة البصرة العراقية على مياه الخليج العربي بالأراضي التركية ويعد مقترحاً مهماً لكل بلدان المنطقة والعالم، ومن الاقتصاد إلى الأمن، حيث توجد مؤشرات مهمة يمكن البناء عليها للتعاون الأمني بين المنطقتين، منها توقيع أذربيجان وأرمينيا اتفاقا ينهي الصراع المسلح الدائر حول إقليم ناجورنو كاراباخ في عام 2020 وهو ما كان محل ترحيب من تركيا، فضلاً عن الاتفاق السعودي- الإيراني، حيث إن إيران هي عامل مشترك بين منطقة الخليج العربي والقوقاز، بالإضافة إلى وجود تهديدات أمنية تحتاج إلى تعاون مشترك وهي تهريب المخدرات وغسل الاموال والتهديدات السيبرانية، وبوجه عام، كان هناك إجماع على ضرورة الحد من التنافس والصدام في منطقة القوقاز، وحل القضية الفلسطينية والتصدي للإرهاب والتطرف في منطقة الشرق الأوسط كمتطلبات لتحقيق تعاون مستدام وشامل، ومن الاقتصاد والأمن إلى الأمن الناعم، حيث إن الحديث عن الحضارة والثقافة في المنطقتين ركيزتان أساسيتان لهذا التعاون، وكذلك الانطلاق من تجارب التسامح والتعايش المهمة التي تقدم دروساً مستفادة للتواصل والحوار ومن ثم لا بد من تفعيل دور الدبلوماسية الدينية ضمن مضامين التعاون بين المنطقتين.
ويعني ما سبق أن التعاون بين القوقاز والشرق الأوسط في الوقت الراهن يعد أقرب من أي وقت مضى سواء بالنظر إلى التهديدات المشتركة أو مسارات التصالح في كلتا المنطقتين، بالإضافة إلى التأثيرات المشتركة لحالة التنافس الدولي الراهنة؟ ولكن ما هي مقترحات ذلك التعاون بشكل عملي؟
توجد حاجة إلى خطة شاملة تستهدف المزيد من اكتشاف الطرفين فرص التعاون بينهما في المجالات كافة، فعلى الصعيد الاقتصادي إذا كانت دول جنوب القوقاز ومن بينها أذربيجان تسعى لاستقطاب الاستثمارات من منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط عموماً فهو الهدف ذاته لدول الخليج العربي، بما يعني أنه لا بد من وجود خطط ترويجية لفرص الاستثمار وخاصة في مجالات الطاقة النظيفة والتكنولوجيا، وكذلك الزراعة في ظل تحدي الأمن الغذائي الذي أضحى أكثر إلحاحاً، وخاصة بعد جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، بالإضافة إلى خطط للترويج السياحي، وعلى الصعيد الأمني إذا كان هناك اتفاق بين الجانبين على حتمية مواجهة التطرف والإرهاب فلابد من تعزيز التعاون المشترك للحد من تفاقم الصراعات التي تمثل مدخلاً لعمل تلك الجماعات، فعلى سبيل المثال كان هناك مقاتلون من منطقة القوقاز في سوريا، وعلى الصعيد الاستراتيجي يمكن القول بأن جميع القوى الفاعلة في تلك المنطقة تربطها بدول الخليج العربي علاقات متنوعة ومن ذلك تحسن العلاقات التركية – الخليجية، بالإضافة إلى أن مبادرة الحزام والطريق وتمر من منطقة القوقاز هي في الوقت ذاته مثار اهتمام دول الخليج العربي.
وتأسيساً على ما سبق يمكن تحقيق ذلك التعاون من خلال عدة آليات عملية من بينها التفكير في تأسيس حوار استراتيجي سنوي بين المنطقتين لمأسسة ذلك الحوار وتحديد أوجه الاتفاق والاختلاف بشأن القضايا المختلفة وكذلك التعرف على المزيد من فرص التعاون، وعلى المستوى الشعبي يمكن التفكير في وضع خطة إعلامية للتعريف بالعوامل المشتركة بين الجانبين «التاريخية، الدينية، الثقافية» ويمكن أن تسهم مراكز البحوث بدور مهم في هذا الشأن من خلال إجراء البحوث المشتركة بين مراكز الدراسات في الجانبين حول أهم التحديات المشتركة بما يعزز تبادل الخبرات والتجارب حول أفضل السبل لمواجهة تلك التحديات.
وبوجه عام تمثلت مخرجات المؤتمر في توافقات بشكل كبير حول مجالات محددة للتعاون، وإن كانت لاتزال هناك بعض المعوقات ذات الصلة بالتطورات داخل كل إقليم، ولكن التطورات العالمية وقناعات الدول الصغرى والمتوسطة بضرورة فتح آفاق جديدة للتعاون تتجاوز البعد الجغرافي وتحقق الاستفادة من كافة الفرص المتاحة هي أسس تعكس إمكانية نجاح ذلك التوجه في ظل مؤشرات إيجابية نسبياً بشأن تسوية بعض الصراعات في المنطقتين، وهو ما يمثل أرضية ملائمة سواء للاستثمارات أو بدء حوارات سياسية شاملة ولكن مع الأخذ بالاعتبار الأدوار الخارجية تجاه الأقاليم، والتي تصل إلى حد الشراكات المتكاملة تجاه بعض الأقاليم التي لديها فيها مصالح جوهرية.
ومجمل القول إن التعاون بين المنطقتين ممكن وفي مجالات عديدة، ولكن ربما يتطلب الأمر بعض الوقت للمزيد من التواصل بينهما على الصعيدين الرسمي والشعبي، وقد يحتاج الأمر إلى خطة إعلامية منظمة للتعريف بالمنطقتين لتحقيق مفهوم وأهمية الحوار عبر الأقاليم.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك