سنبدأ هنا بتعريف المُعَرّف، وهو أن البلدية مؤسسة حكومية غايتها الرئيسية تطوير المدن وما يحيط بها من ضواح وقرى وغيرها، ومن أهم مهامها وضع القواعد الأساسية لمخططات البنية التحتية للمناطق، وهياكل المخططات العمرانية، بما في ذلك تطوير الشوارع والأسواق والحدائق والمساحات الخضراء والشواطئ، وخدمات التنظيف والنظافة العامة، وكل ما له علاقة بجمالية هذه المناطق، وقوة وانسيابية وتطور البنى التحتية، ومدى اتساع وتناسق المظاهر الجمالية التي يمكن تلمسها في الشوارع والأحياء والمناطق التي تديرها هذه البلديات.
إذن عندما ننبهر بجمال المدن التي نزورها فإن أول ما يجب أن يتبادر إلى الذهن هو عظمة مؤسساتها البلدية التي صنعت كل هذا الجمال للناظرين، واهتمت بتخطيطها العمراني وبتطوير كافة المرافق والطرق والشوارع، والتزمت بنظافتها، وبالأنظمة والقوانين التي تحقق الاستدامة لكل هذه التفاصيل الحضرية المهمة في حياة الشعوب.
هذه المقدمة ما هي إلا تعريف بسيط لشؤون البلديات التي نحاول أن نقارن بها أداء مؤسساتنا البلدية في مملكتنا العزيزة، وهي مؤسسات تخصص لها الحكومة ميزانيات كبرى وطواقم عمل من الإداريين والخبراء والمهندسين والمخططين وواضعي القوانين والانظمة، والعاملين، يجب استثمارها أفضل استثمار للحصول على مدن ذات بنى تحتية متينة، ومخططات راقية وجميلة وانسيابية بكل التفاصيل الهندسية المتعارف عليها علمياً وعمرانياً وسكانياً وبيئياً.
من المؤسف أنه رغم مرور أكثر من قرن على تأسيس أول بلدية في مملكة البحرين (1919) فإن هذه البلدية لا تزال تعاني من تخلف فكري ومعرفي أدى إلى عدم تطوير أدائها.
بلديتنا المحترمة تعاني من قصور شديد في رؤيتها حول مهامها، وقصور أشد في تفاصيل هذه المهام التي هي جزء رئيسي في تطور البلاد بشكل عام.
لا تزال البلديات تفتقر إلى رؤية حول أهم العناصر العلمية في نشأة وبناء المدن الحديثة، ومعاير المظاهر الجمالية في بناء المدن، ولا تزال مقيدة بأطر بدائية لم تتمكن من تجاوزها رغم تقدم الوقت وعولمة المعرفة وظهور المدن الجميلة والذكية وغيرها من المواصفات الحديثة التي باتت عنصراً من عناصر التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياحي في العصر الحديث.
فلا تزال بعض الشوارع والطرقات والأسواق في مدننا وخارجها تعاني من التخطيط العشوائي والبناء الفوضوي الذي يتسبب في الكثير من الاختناقات والعوائق في الاستخدام والمرور، ناهيك عما تنشره من ثقافة العشوائية في السلوك العام، التي هي مزيج من التدني في القيم الأخلاقية والأمنية والاجتماعية.
ولا تزال مدننا تفتقر إلى الحدائق العامة، أو حديقة عامة واحدة كبيرة يشار إليها بالبنان، تعتبر مقصداً للراحة والاسترخاء... حدائق مظللة بالأشجار الكثيفة وأنواع من المساحات الخضراء الجميلة والمستدامة مع بيئتنا المحلية، وذات مساحات صالحة لرياضة المشي والدراجات، والمساحات المائية والمقاهي الجميلة الصغيرة الأنيقة الصالحة لقضاء بعض الوقت فيها مع الأهل والأصدقاء والأطفال... نعم نحن شعب نستحق أن نعيش بين مساحات خضراء قادرة على إنتاج الأكسجين وتوفير أجواء صحية توحي بالراحة، وتخلق ثقافة الاستمتاع بزيارة الحدائق؛ نستحق أن تتعود عيوننا مشاهدة الجمال عوضاً عن تلك العشوائيات والحدائق الهزيلة التي لم تتغير أنواع أشجارها منذ عشرات السنين، ولا تلقى العناية اللازمة بعد حفلات الافتتاح المكلفة التي يتم الاحتفال بها أمام المسؤولين فقط.
لا تزال البلديات غائبة تماماً عن البيوت التي تستغل الأرصفة المحاذية لها لزراعة الأشجار وغيرها، حتى صارت الأرصفة حدائق وصارت الشوارع المحاذية لها هي الأرصفة التي يسير عليها الناس.
لا تزال البلديات غائبة عن مساءلة أولئك الذين يستغلون أجزاء من بيوتهم في تربية الحيوانات والطيور، مما يتسبب في انتشار الأمراض والروائح الكريهة في الأحياء المأهولة بالسكان.
لا تزال البلديات غائبة عن ظاهرة انتشار مخلفات البناء في كافة مناطق البلاد، سواء كانت بناء الطرقات أو بناء المنازل، حيث يترك المقاولون بقايا مواد البناء، أكوام التراب أو أكوام الحجر والطوب، في الطرقات على أمل أن تختفي مع عوامل التعرية، ما يخلق مشاهد قبيحة من جهة، ويزيد من عوائق الطرقات والأرصفة والشوارع من جهة أخرى.
وسنكتفي بهذا القدر لأننا سنحتاج إلى صفحات طويلة للحديث عن ظاهرة غياب الشواطئ العامة الصالحة لاستقبال الناس والترفيه؛ أو للحديث عن ظاهرة عدم عدالة البلديات في توفير الخدمات لكافة المناطق، إذ يحصل البعض على اهتمام لا يحصل عليه الآخرون، وهذا ما سأتجاوزه كي لا أدخل في جدال لا طائل منه، على أمل أن أقدم ما يفيد فقط... وهناك المزيد المزيد مما يمكن الحديث عنه، ولكن سأتوقف هنا لأضع سؤالي الأزلي: لماذا ليس هناك أي اهتمام بتطوير أداء البلديات في بلادنا؟
وإلى حين معرفة الرد المقنع على تساؤلنا الذي يضم بداخله عددا من التساؤلات، سيبقى للحديث بقية.
مي زيادة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك