يبدو أن الجمهورية الفرنسية في طريقها إلى الدخول في نفق مظلم لا تدري كيف الخروج منه، فهذا البلد الأوروبي الكبير والمهم يعيش حالة من عدم الاستقرار الأمني والاجتماعي، فمنذ الأحداث التي شهدتها في عام 2005 أيام الرئيس ساركوزي ودوامة الاحتجاجات والانتفاضات والعنف والاضطرابات لا تنقطع سواء ضد القوانين والتشريعات التي تمس شريحة كبيرة وواسعة من الموظفين في القطاع الحكومي والخاص على حد سواء التي تؤثر سلبا على مستوى معيشة المواطنين الفرنسيين وعلى وضعهم الوظيفي أو ضد ارتفاع الأسعار أو ضد الإساءة إلى الإسلام والمسلمين الذين يشكلون نسبة كبيرة من سكان فرنسا أو ضد منع الحجاب في المدارس الفرنسية، فبعد انتفاضة السترات الصفراء جاءت الاحتجاجات على تعديل قانون التقاعد الذي أقره البرلمان الفرنسي رغم المعارضة الشديدة من قبل النقابات والعمال حتى جاءت حادثة اغتيال الشاب الجزائري نائل، البالغ من العمر 17 سنة وهو من أب جزائري وأم مغربية يعيشون في فرنسا، على يد رجل من شرطة المرور في تصرف غير عقلاني قام به أحد أفراد شرطة المرور الفرنسية عندما تم توقيف هذا الشاب وهو يقود سيارة مستأجرة للتفتيش واتضح أنه لا يملك رخصة سياقة، بحسب الرواية الرسمية الفرنسية، حيث لم يلتزم الشاب بأوامر شرطة المرور للوقوف وحاول السير لتقوم الشرطة بإطلاق النار عليه في نانتير بالقرب من العاصمة الفرنسية باريس فأردته قتيلا، وخصوصا إن سجل هذا الشاب يخلو من أي سوابق جنائية بحسب الجهات الأمنية الفرنسية.
حادثة اغتيال الشاب نائل أدت إلى خروج مئات الآلاف من الناس وقد تكون الأعداد تجاوزت المليون إلى شوارع العاصمة الفرنسية باريس وبقية المدن الفرنسية الكبرى على مدار أكثر من خمسة أيام للتعبير عن استنكارهم وشجبهم لهذه الحادثة، حيث تحولت العاصمة والمدن الفرنسية إلى ساحة للمنازلة بين المحتجين على مقتل الشاب الجزائري نائل بسلاح أحد رجال شرطة المرور الفرنسية كما أسلفنا وقوات الشرطة الفرنسية البالغ عددها 45 ألف شرطي، وزعوا على المدن والمناطق الفرنسية منهم 7000 آلاف في العاصمة باريس وضواحيها في ظاهرة تؤكد عمق الأزمة التي تعاني منها فرنسا بسبب سوء المعاملة التي يعاني منها المهاجرون واللاجئون الأجانب الذين أتوا إلى فرنسا من المستعمرات الفرنسية السابقة، تحديدا من إفريقيا وشمال إفريقيا، والذين استقروا في فرنسا من خمسينيات القرن الماضي لكنهم لم يستطيعوا الاندماج في المجتمع الفرنسي بسبب النظرة العنصرية إليهم.
لقد أتى هؤلاء إلى فرنسا عندما كانت البلاد في حاجة ماسة إلى الايدي العاملة لتشغيل المصانع والمعامل الصناعية بعد الحرب العالمية الثانية وتوافد على البلاد مئات الآلاف من الوافدين والمهاجرين ليسهموا في النهوض بالصناعة الفرنسية وتزوجوا وأنجبوا الأبناء والبنات الذين ولدوا في فرنسا ويحملون الجنسية الفرنسية ولم يعرفوا وطنا غير فرنسا إلا أنهم لم يحظوا بالرعاية اللازمة ولا بالمظلة الاجتماعية العادلة، وخصوصا في الضواحي كما يسميها الفرنسيون، حيث الإهمال والفقر والبطالة والضياع واليأس وانتشار المخدرات والجريمة وانعدام الأمن، ولذلك كان من الطبيعي أن تتحول حادثة اغتيال الشاب نائل إلى منازلة جديدة بين المحتجين ورجال الشرطة للتعبير عن حالة اليأس التي يعاني منها هؤلاء الشباب.
لقد كانت هذه المواجهة هي الأخطر على الإطلاق والأكبر في حجمها وتأثيرها وتداعياتها، حيث أدت إلى توقيف أكثر من 1300 شخص وإصابة 45 من عناصر الشرطة الفرنسية بجروح وإضرام النار في عربات الشرطة وتكسير المباني ونهب المتاجر والاعتداء على المحلات التجارية والمجمعات والبنوك وخسائر قدرت بالمليارات من الفرنكات.
إذن هذه الحادثة وغيرها من الحوادث التي شهدتها فرنسا تؤكد الحاجة إلى إعادة النظر في القوانين والتشريعيات لتتواكب مع تركيبة المجتمع الفرنسي وضمان حقوق المهاجرين والوافدين ولتوفير الظروف المناسبة لإدماجهم في المجتمع الفرنسي الذي مازال ينظر إلى هؤلاء نظرة عنصرية رغم مساهمتهم الفعالة والكبيرة في خدمة فرنسا. ويكفي هنا أن نلقي نظرة على سبيل المثال على المنتخب الفرنسي لكرة القدم وإنجازاته لندرك الدور الكبير للوافدين في تحقيق الإنجازات لفرنسا، وخصوصا في ظل تنامي التيار اليميني المتطرف في فرنسا وفوزه في الانتخابات الأخيرة ومحاولته الوصول إلى السلطة وما يعنيه ذلك من خطر على أمن واستقرار فرنسا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك