في الأسابيع الأخيرة، هيمنت مجموعة من الأحداث العالمية على وسائل الإعلام الغربية، بدايةً من تصعيد الحرب في أوكرانيا، مرورًا بتمرد مجموعة «فاغنر» الروسية، حتى الشروع في هجوم «كييف» المضاد في صيف 2023، وعلى النقيض من ذلك، تراجعت التغطية الإعلامية بشكل ملحوظ، بشأن تفاقم محنة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، فضلا عن وجود «تخاذل»، واضح لإدانة العدوان من الحكومات الغربية، التي تزعم أنها حامية حقوق الإنسان، وحق تقرير المصير، واحترام القانون الدولي؛ ما يشير إلى ازدواجية المعايير الغربية.
وفي حلقة جديدة من التصعيد في الأراضي الفلسطينية، شنت إسرائيل في الثالث من يوليو 2023، هجومًا عسكريًا واسع النطاق على مدينة «جنين»، في الضفة الغربية المحتلة، مستهدفة بصورة متعمدة مخيم اللاجئين بوابل من الهجمات الجوية والبرية. وكتبت «ألكسندرا شارب»، في مجلة «فورين بوليسي»، أن هذه الضربات هي «أعنف هجوم شنه الجيش الإسرائيلي على الضفة الغربية منذ عقدين من الزمن». وأوضحت «بيثان ماكيرنان»، و«بيتر بومون» في صحيفة «الجارديان»، أنه «تم شنه بعشر غارات على الأقل بطائرات مسيرة تلاها مداهمة ما يصل إلى 2000 جندي إسرائيلي مدعومين بالجرافات المدرعة والقناصة». وأضاف «جيريمي بوين»، من شبكة «بي بي سي»، أن الضربات كانت «ممنهجة»، فيما أشارت «لين هاستينغز»، منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، أن العملية العسكرية خلفت عدة قتلى وجرحى في حالات خطرة».
وفي الوقت الذي صعدت فيه «إسرائيل»، هجماتها على الأراضي الفلسطينية المحتلة، غاب الغرب عن إدانة استخدامها للقوة ضد المدنيين الفلسطينيين. وردًا على الهجوم، صرح «مجلس الأمن القومي الأمريكي»، بأنه يواصل «دعم أمن إسرائيل، وحقها في الدفاع عن شعبها». فيما لم يصدر الرئيس الأمريكي، ولا وزير خارجيته، بيانًا بشأن هذا التصعيد، مما يدل على غياب واضح لمساءلة إسرائيل. وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء البريطاني «ريشي سوناك»، صرح بأنه «يجب إعطاء الأولوية لحماية المدنيين»، ودعوته الجيش الإسرائيلي إلى «التحلي بضبط النفس» في عملياته العسكرية، فقد أكد أيضا أن بلاده تدعم «حق إسرائيل في الدفاع عن النفس». وعلى الرغم من أن «الاتحاد الأوروبي»، أدان الخسائر في أرواح المدنيين التي تسببت فيها الانتهاكات الإسرائيلية، إلا أن رده تجاهل نهج إسرائيل الدائم في العنف. وبالتالي، تم تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني، الذي يعيش في ظل ما وصفته منظمات، مثل «العفو الدولية»، و«هيومن رايتس ووتش»، بـ«نظام الفصل العنصري».
وبدلاً من فرض عقوبات صارمة على سلوك إسرائيل في الأراضي المحتلة، فإن الحماس الذي طرحت بموجبه «إدارة بايدن»، احتمالية توقيع المزيد من «اتفاقات إبراهام»، في الفترة القادمة، يكشف إلى أي مدى لا تضع «واشنطن»، في حسبانها معاناة الفلسطينيين، وكيف ترغب في نهاية المطاف في مكافأة إسرائيل على الرغم من خرقها الصارخ للقانون الدولي. وبالنظر إلى وصف وزير الخارجية الأمريكي، «أنتوني بلينكن»، لهذه الاتفاقات بأنها تشكّل «أولوية» للسياسة الخارجية لبلاده في الشرق الأوسط، يتضح أن التزام واشنطن بتعزيز حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، لا ينطبق على الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وتعليقا على ذلك، أشار «دانييل ليفي»، من «مركز مشروع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط»، إلى أن عدم وجود رد فعل فوري لإدارة بايدن حيال الانتهاكات الإسرائيلية دليل على أننا «سوف نستمر في رؤية واشنطن تقوم بتغطية الإسرائيليين»، و«تركهم يفلتون بما يفعلون». وأوضح «نهاد عوض»، من «مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية»، أن «ائتلاف نتنياهو بات خارج عن السيطرة تمامًا»؛ لأنه لا يتوقع مواجهة أي عواقب من البيت الأبيض، ما «يُظهر استخفافا قاسيا بحياة الفلسطينيين». فيما أدان «مايكل سفارد»، من «منظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي»، «تورط الحكومة الإسرائيلية منذ فترة طويلة في برنامج متعمد لتسريع التوسع الاستيطاني غير القانوني، معتبرا إياه «انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي»، كونه خطوة رئيسية نحو «ترسيخ آليات الفصل العنصري».
وبشكل عام، يعد عدم صدور إدانات واضحة من الدول الغربية، «ملحوظًا»، و«مؤشرًا» على استمرار نهجها المتمثل في التغاضي عن الانتهاكات المستمرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي.
وإلى جانب عدم وجود ردود أفعال قوية من الحكومات الغربية على الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين، فإن الافتقار إلى التغطية الإعلامية من قبل المنافذ الإعلامية الرئيسية لدى الغرب «أمر لافت للنظر» أيضًا. فقد كانت التقارير الصادرة عن «نيويورك تايمز»، بشأن الهجمات الأخيرة محدودة للغاية، كما هو الحال بالنسبة لتقارير «بي بي سي». وعلى سبيل المثال، تم تركيز التغطية الإعلامية الغربية للهجوم الإسرائيلي على «جنين»، على تجنب ذكر لفظ شن عمليات عسكرية هجومية دامية. ووصفته الـ«بي بي سي»، بأنه «عملية كبرى»، وكذلك صحيفة «نيويورك تايمز»، بأنه «هجوم جوي»، كما أشارت صحيفة «الجارديان»، إلى أنه مجرد «توغل»، فيما حاول «ستيفن كالين» في صحيفة «وول ستريت جورنال»، تبريره بحجة أن السلطة الفلسطينية «فشلت في احتواء جنين ومصادرة الأسلحة لدى الجماعات المسلحة المدعومة من إيران».
ومن المهم التأكيد على أن الهجوم الإسرائيلي على جنين هو مجرد أحدث هجوم ضمن سلسلة من الاعتداءات العنيفة على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، لا سيما مع قيام قوات الدفاع الإسرائيلية بالفعل بشن ما يسمى بـ«عملية «كاسر الأمواج»، وهي التسمية المعتمَدة لعمليات القمع والحصار والتنكيل الأمنية الراهنة، والتي تخللتها غارات على البلدات والمدن الفلسطينية. وفي 20 يونيو، على سبيل المثال، قُتل سبعة فلسطينيين خلال غارة إسرائيلية استخدمت فيها مروحيات هجومية. ومن بين أكثر الهجمات شراسةً هجوم المستوطنين على بلدة «ترمسعيا» في شمال رام الله يوم 21 يونيو، والذي ذكرت «إليزابيث هاجيدورن»، من موقع «المونيتور»، أن «نحو 400 مستوطن مسلّح قد تورّطوا فيه وأحرقوا سيارات ومنازل ومزارع مملوكة للفلسطينيين». وعلّق «بن لينفيلد»، في صحيفة «الجارديان»، بأنه «أعاد إلى الأذهان الهجوم على بلدة حوارة في فبراير الماضي»، والذي وصفته «منظمة العفو الدولية»، بأنه يعكس «الواقع القبيح» لنظام «الفصل العنصري» الإسرائيلي الرامي إلى السيطرة على الضفة الغربية.
من جانبه، أكد «بن وايت»، في موقع «العربي الجديد»، أن «حملة الضم»، التي تشنّها الحكومة الإسرائيلية، لا تزال تمثّل القوة الدافعة لـ«التصعيد في الضفة الغربية»، مشيرا إلى أن «المستوطنين نفّذوا نحو 441 هجومًا على الأقل أسفر عن الإضرار بالممتلكات أو وقوع ضحايا» منذ بداية عام 2023 حتى منتصف يونيو، أي بمتوسط أكثر من هجومين يوميًا، مؤكدا أن الوضع «يجعل الحياة غير محتملة بالنسبة للفلسطينيين»، فيما لم يقتصر دور الجيش الإسرائيلي على تسهيل عنف المستوطنين فحسب، بل معاونتهم أيضًا على هذه الممارسات، في ظل وجود حكومة يشغل فيها مجموعة من القوميين المتطرفين مناصب بارزة ومؤثرة. وفي هذا السياق، سجّل موقع «ميدل إيست آي»، أكثر من 85 هجومًا منفصلاً ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية فقط خلال الأسبوع الذي بدأ في 19 يونيو 2023، مضيفًا أن غالبية الهجمات تمثلت في «حرق المحاصيل والسيارات والمنازل».
وفي مقابل عدم وجود اهتمام غربي إزاء الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة؛ يجب هنا الإشارة إلى ازدواجية المعايير الغربية، مقارنة بدعواتها غير المتسقة لتقرير المصير، والسيادة، والحق في مقاومة الاحتلال، وحقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم. ولا تزال «أوكرانيا»، هي المثال الأكثر وضوحا، حيث أقرت الدول الغربية مرارا بالدفاع عنها ضد العدوان الروسي، وقدمت مساعدات مالية وعسكرية هائلة لتحقيق ذلك، ودعت إلى استعادة الأوكرانيين لأراضيهم بالقوة، فيما حازت تطورات الحرب الأوكرانية، وتمرّد «فاغنر» في روسيا، على اهتمام إعلامي واسع، وهو ما يصعب على المراقبين تجاهله.
وعلى النقيض من إحجامه عن التعليق على محنة الفلسطينيين؛ أشار «جيمس كليفرلي»، وزير الخارجية البريطاني، إلى قوة «عزيمة الغرب»، في زيادة دعمه لأوكرانيا؛ حيث أصبحت حكومته مؤخرًا أول قوة غربية تزود «كييف»، بمعدات متقدمة، بما في ذلك الصواريخ بعيدة المدى. وعندما يرى أنه «إذا فشلت القوى الغربية في دعم «كييف»، «ستكون هناك أجواء أكثر خطورة خلال الفترة المقبلة»؛ فعندئذٍ لا يمكن أن تتجاهل بريطانيا الانتهاكات الإسرائيلية، بشكل غير مبرر في ضوء استمرار استشهاد العديد من الضحايا الفلسطينيين المدنيين، والأضرار المادية الهائلة، ضمن سلسلة مستمرة من التصعيد والعنف.
ومنذ بدأت الحرب الأوكرانية في فبراير 2022، أعلنت «الولايات المتحدة»، و«المملكة المتحدة»، و«الاتحاد الأوروبي»، وبقية هيكل التحالف الغربي على الفور إدانة كاملة لممارسات موسكو، وفرضت سلسلة من العقوبات الشاملة عليها. وفي هذه الأثناء، ندد «جو بايدن»، بسرعة بـ«الاعتداء الوحشي» لروسيا، معتبرا أنه «بدون مبرر». كما أعلن رئيس وزراء المملكة المتحدة -آنذاك- بوريس جونسون، عن دعم بريطانيا الفوري للأوكرانيين الأبرياء، وصرح بأن بلاده «لا يمكنها أن تظل صامتة إزاء الأمر». علاوة على ذلك، أدانت وسائل الإعلام الغربية الحرب في أوكرانيا، واعتبرت «صحيفة التايمز»، هذا اليوم بأنه «يوم مظلم لأوروبا»، ووصفه «مايكل هيرش»، في صحيفة «فورين بوليسي»، بأنه «أكبر تحد للغرب منذ الحرب العالمية الثانية»، وأعربت صحيفة «وول ستريت جورنال»، عن أسفها «لعودة أوروبا إلى عصر الاستبداد».
ومع إصرار وزير خارجية «المملكة المتحدة»، على أن «الفشل في أوكرانيا من شأنه أن يعيد للنظام العالمي الوضع الذي تفترس فيه الدول الكبرى القوى الأضعف»؛ فإن الأعمال العدائية الإسرائيلية الممارسة ضد الفلسطينيين -التي يدعمها الغرب صراحة من خلال صادراته من الأسلحة والدعم السياسي والاقتصادي- تثير اتهامًا بازدواجية المعايير، وتعكس كيف أن رغبة الغرب في تحقيق مكاسب جيوسياسية، لا زالت تعرقل آليات التنفيذ العادل والمشروع للقانون الدولي، وحماية حقوق الإنسان.
ولإثبات الهوة بين رد التحالف الغربي على الانتهاكات الروسية في أوكرانيا، وسلوك الحكومة الإسرائيلية؛ ينبغي الإشارة على وجه الخصوص إلى المدى الذي ذهبت إليه «واشنطن»، لحماية إسرائيل من الإدانة الدولية لسياستها في الأراضي المحتلة، سواء في «الأمم المتحدة»، أو «المحكمة الجنائية الدولية»، أو في أي مكان آخر؛ وهو الأمر الذي لا يمكن إخفاؤه أو تجاهله.
على العموم، لا يمكن إنكار ازدواجية المعايير الغربية في ردود أفعالها تجاه حرب روسيا في أوكرانيا، مقابل ما تقوم به إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث برزت هذه الازدواجية بشكل صارخ عند محاسبة الأولى جراء انتهاكاتها، فيما تم تجاهل الفظائع، والخروقات والانتهاكات، وجرائم الحرب، التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي المحتلة ليل نهار.
وفي ضوء إصرار الحكومات الغربية المستمر على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، دون إدانة واضحة لوقوع ضحايا بين المدنيين الفلسطينيين، وتدمير المنازل والبنية التحتية، مع غض الطرف من جهة أخرى عن خطط الضم المتسارعة لتحالف «بنيامين نتنياهو»، اليميني المتطرف للأراضي الفلسطينية؛ فمن الواضح أنها ستستمر في اعتداءاتها وانتهاكاتها بحق الفلسطينيين العزل، ووقوع مزيد من الضحايا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك