الفلاح الذي كان يزرع الأرض منذ القدم ليحصل على قوت يومه وغذاء أسرته، اتبَع نهجاً موروثاً مبنياً على تراكم وتجمع الخبرات مع الزمن، وعلى المعرفة والتجربة السابقة التي تعلمها من الآباء والأجداد، فكانت الممارسات التي يقوم بها أثناء زراعة المحاصيل مستدامة ومثمرة، فتُعطي الأرض أكلها وثمرها طيباً سليماً من دون أن تكون له تداعيات سلبية ضارة تنعكس على تربة الأرض، أو جودة وسلامة المحصول، أو صحة الإنسان وأمان جسمه، أو مكونات البيئة بشكلٍ عام، فلا فساد لنوعية الهواء الجوي، ولا تدمير للمياه السطحية والجوفية، ولا ضرر لنظام التربة البيئي.
وكانت هذه الممارسات والسلوكيات الزراعية الفطرية الذاتية والبسيطة التي أثبتت جدواها وفاعليتها مع الزمن مُستندة على عدة أسس كانوا ينفذونها من دون معرفة المبادئ العلمية التي تقف وراءها وتثبت فوائدها. فمن الممارسات الزراعية التقليدية هي ما نُطلق عليها الآن بالتدوير، أو إعادة الاستخدام للمخلفات، وهي استخدام المخلفات الموجودة في المنطقة لتسميد التربة، ورفع خصوبتها، وإثرائها بالمواد الغذائية العضوية وغير العضوية، مثل المخلفات الحيوانية والمخلفات العضوية أو الكمبوست بشكلٍ عام التي تنتج من المزارع والحقول والمنازل. وهذه جميعها تندرج تحت مسمى «المخلفات العضوية»، أي أنها ترفع من مستوى المواد العضوية والمغذيات الأخرى في التربة، وتزيد من قدرة التربة على الحفاظ على مياه الري لفترة طويلة حتى يستفيد منها النبات فتُخفض من درجة تسربها إلى أعماق التربة، إضافة إلى زيادة تماسك التربة وقوة بُنيتها.
كذلك من الممارسات الزراعية التقليدية هي تجنب الحرث بشكلٍ عام، حيث إن عملية الحرث تعني قلب التربة وبالتالي إحداث تغيير في النظام الميكروبي الحيوي للتربة، وبالتحديد أنواع البكتيريا والفطريات ككائنات دقيقة مجهرية صغيرة جداً «ميكرو»، أو الديدان وغيرها ككائنات كبيرة الحجم «ماكرو»، وكل هذا النظام الحيوي الدقيق للتربة يحدث فيه خلل كبير، وقتل لهذه الكائنات الحية النافعة التي تغذي التربة ويستفيد منه المحصول النباتي، إذا قام الفلاح بعملية الحرث الميكانيكية الشديدة.
ومن الممارسات والأساسيات في الزراعة التقليدية أيضاً هي تدوير زراعة المحاصيل، أي تنويع المحصول النباتي، مما يعني أيضاً تنوعاً في الكائنات الحية التي تعيش في التربة وفوق سطحها، إضافة إلى زراعة محاصيل أو نباتات سطحية، أو «محاصيل الغطاء» (cover crops) لتغطية التربة ومنع تعريها وفقدان الطبقة السطحية الحيوية المشبعة بالمعادن والمغذيات العضوية وغير العضوية. كذلك من فوائد هذه النباتات السطحية التي تزرع بين فصول المحاصيل الغذائية هي منع نمو الأعشاب الضارة والآفات التي تؤثر على المحصول الغذائي من الناحيتين النوعية والكمية، علاوة على أن جذورها تغذي التربة بالمواد الكيميائية المغذية النافعة التي تحتاج إليها المحاصيل بعد زراعتها.
ولكن مثل هذه الممارسات الزراعية الفطرية القديمة لم تكن لتُشبع جشع الإنسان بعد الثورة الصناعية الأولى والثانية، ولم تكن لتشفي غليله نحو حبِ جمع المال والكسب السريع، ولذلك قامت الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات التي نشأت أساساً بهدف الربح السريع والكبير من دون أخذ أي اعتبار لأي أمور أخرى، سواء كانت صحة الإنسان والحياة الفطرية، أو صحة مكونات البيئة. ومن أجل تحقيق هدف الربح الفاحش قامت هذه الشركات بتصنيع جميع أنواع المنتجات النافعة والخيرة للبشرية، علاوة على المنتجات الفاسدة والمدمرة للبشرية بكل أنواعها وأشكالها، فكانت على حساب الأمن الصحي للإنسان وسلامة بيئته ومكوناتها الحية وغير الحية، إضافة إلى استنزافها العميق للموارد والثروات الطبيعية للبشرية جمعاء.
ومظاهر هذه السياسة أو الاستراتيجية المتطرفة للعملية التنموية انكشفت بكل وضوح منذ بزوغ الثورة الصناعية الأولى، وضحاياها البشرية سقطت في كل الدول المتطورة والمتقدمة صناعياً. ففي البداية كان تدهور جودة الهواء الجوي بملوثات الدخان الأسود والغازات الحمضية مثل ثاني أكسيد الكبريت وثاني أكسيد النيتروجين، فنزلت على البشر أمطار حمضية أهلكت الحرث والنسل والحجر والشجر، ثم كانت كوارث تدهور مياه البحيرات والأنهار وتسمم آلاف الناس بالمخلفات الصناعية التي كانت تصرف فيها، وظهور أمراض غريبة لم يعرفها الإنسان من قبل، كمرض ميناماتا وإتاي إتاي في اليابان. وبعد ذلك كانت تلوث الهواء بانبعاثات السيارات ومحطات توليد الكهرباء وانكشاف ظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي، وبعدها تدهورت طبقة الأوزون في أعالي السماء، ووقعت الكارثة البيئية التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً وهي التغير المناخي وتداعياتها المتمثلة في سخونة الأرض ومياه البحار، وارتفاع حموضتها، ووقوع الفيضانات وحرائق الغابات والموجات الحرارية على الكرة الأرضية.
وهذه السياسة المعوقة غير المتبصرة التي اتبعها الإنسان في القطاع الصناعي امتدت إلى كافة القطاعات، بما في ذلك القطاع الزراعي، وبالتالي غيَّر من الممارسات القديمة السابقة إلى ممارسات تهدف أيضاً إلى الإنتاج الكبير وعلى نطاق واسع وبأقصى سرعة ممكنة لجني الأموال الطائلة، فالإسراف في استخدام كل ما من شأنه رفع وزيادة الإنتاج الزراعي من الأسمدة الكيميائية، كاليوريا والأمونيا والفوسفور والبوتاسيوم، وكافة أنواع المبيدات، سواء أكانت مبيدات للأعشاب أو الحشرات أو الطفيليات، إضافة إلى استعمال الآليات والمعدات الضخمة والثقيلة التي لوثت الهواء الجوي نوعاً وكماً. كل هذه التصرفات المتطرفة والمتعجلة انعكست سلباً على عدة جوانب حيوية، منها تدهور صحة المحاصيل التي تشبع بعضها بالمبيدات الحشرية، وبالتالي الإضرار بصحة الإنسان وسلامته وتعريضه للإصابة بالأمراض المستعصية، وفي مقدمتها السرطان، إضافة إلى التأثير على جودة المحصول من ناحية غناه وقيمته من المواد الغذائية كالمعادن، والفيتامينات، والمواد الأخرى التي تقاوم الالتهابات، والأمراض المزمنة، ومضادات الأكسدة.
وعلاوة على ذلك، فإن تبني سياسة الإنتاج الغزير والكبير والسريع أدى إلى التدمير الممنهج للنظام البيئي للتربة وخصوبتها ونوعيتها، سواء كان النظام الحيوي الميكروبي، أو النظام المتعلق بدورة المواد الكيميائية العضوية وغير العضوية.
فكل هذه التداعيات الخطيرة على صحة الإنسان والبيئة فرضت ردود فعل قوية من بعض الناس، ودعوا إلى الرجوع إلى نظام الزراعة القديم والتقليدي، وأطْلقُوا على هذا النظام «الجديد» بالزراعة العضوية، أو الزراعة المستدامة التي هي جزء من سياسة عامة هي «التنمية المستدامة» التي تأخذ في الاعتبار الجانب الاقتصادي جنباً إلى جنب مع الجانبين البيئي والاجتماعي عند القيام بأي مشروع تنموي. ففي الحقيقة أن هذا النظام، أو المدخل المستدام إلى الزراعة ما هو إلا امتداد للنظام الزراعي التقليدي القديم، وليس بدعة جديدة، أو ابتكاراً حديثاً كليا أدخله الناس الآن.
ولذلك فإن الزراعة العضوية تعني في جوهرها عدم استخدام المبيدات بكل أنواعها، وعدم استخدام الأسمدة الكيميائية، وذلك بهدف تعزيز خصوبة التربة ونظامها البيئي، وتجنيبها شر الملوثات العضوية وغير العضوية، علاوة على تحسين القيمة الغذائية للمحصول الزراعي ورفع مستوى المعادن والفيتامينات والمواد الأخرى المفيدة للإنسان، إضافة إلى تجنب تعريض المحصول لأي ملوثات خارجية تضر بصحة المحصول وجودته، وتنعكس في نهاية المطاف على صحة الإنسان.
ولكن تبقى هناك معضلة كبيرة يعاني منها القطاع الزراعي منذ بدء الثورة الصناعية بشقيه الزراعة الحديثة من جانب، والزراعة العضوية التقليدية من جانب آخر، وهي جودة مياه الري التي تؤثر سلباً على جودة وصحة المحصول. فالمياه تدهورت نوعيتها في كل أنحاء العالم، فمياه الأمطار التي من المفترض أن تكون صافية ونقية وخالية من أي ملوثات بشرية، تحولت إلى مياه حمضية وملوثة بالمواد الكيميائية، ومياه البحيرات والأنهار لم تخل من الملوثات، والمياه الجوفية تسربت إليها الملوثات من فوق التربة، حتى مياه الشرب التي يجب أن تكون صحية أصابها داء التلوث. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نُشرت دراسة في مجلة «البيئة العالمية» (Environment International) في أغسطس 2023 تحت عنوان: «المركبات العضوية متعددة الفلورين في مياه الصنبور في الولايات المتحدة الأمريكية»، حيث جَمعتْ الدراسة عينات من مياه الشرب في 716 موقعاً في الولايات الأمريكية، وخلصت إلى أن أكثر من 45% من مياه الشرب تحتوي على هذه المجموعة من الملوثات. فإذا كانت هذه هي جودة مياه الشرب التي من المفترض أن تكون عذبة زلالا خالية من جميع أنواع الملوثات، فكيف ستكون جودة مياه الري؟
فهذه الظاهرة المتمثلة في تدهور مياه الشرب والري تجعل الادعاء بوجود زراعة عضوية مستدامة غير واقعي، ومن الصعب جداً بلوغه في هذا الزمن الذي تشبع بالملوثات في كل مكونات بيئتنا الحية وغير الحية، بعيدة كانت أم قريبة.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك