طرحنا في المقال السابق (ثقافة الحوار في المجتمعات العربية -3) السؤال الذي طرحه الكثيرون ومازال مطروحا هو كيف تمكن الغرب من تحقيق هذه النهضة، ولماذا الغرب وليس الصين مثلا او الحضارة الاسلامية؟ فما العوامل التي أسهمت في نقل أوروبا كونها المنطقة المتخلفة في العالم مقارنة بالحضارة الاسلامية بشكل خاص وتخلفها عن الحضارة الصينية. ونتساءل الى اي حد أسهمت ثقافة الحوار وحرية التعبير ونشر الكلمة والمعلومة والفكرة في خلق هذه النهضة؟
مناقشة ذلك تتطلب النظر الى محطات مرت بها الحضارة الغربية والمؤثرات الرئيسية التي انتجت التحولات وقادت الى التقدم العلمي والازدهار الاقتصادي، والحركة الاجتماعية الحيوية التي وازنت بين سلطة الدولة وقوة المجتمع. ننطلق من فرضية ان الحضارة الغربية كانت نتاج تحولات واعية لها إرهاصات ومسيرة تحول انتهت الى انفتاح فكري اطلق حوارا وطرح التساؤلات الصعبة والحساسة فأنتج معارف ومناهج علمية مكنت من السيطرة على المادة والطبيعة في خدمة الانسان والانسانية من ناحية، ومن ناحية اخرى يسرت هيمنته على العالم واستغلال خيراته. دراسة ما حدث في الدول والمناطق التي حققت نجاحا وتقدما مثل اوروبا واليابان وشرق آسيا والصين والهند حتما ستقود الى استنتاجات تستفيد منها المنطقة العربية وتلقي الضوء على دور الحوار والتفاعل بين الفكر والعلم والعمل والنتائج. فهل تتبنى الدول العربية مثل هذا المشروع؟ ام ان الطريق واضح يتطلب فقط إرادة سياسية للتغيير؟
انطلقت الحضارة الغربية الحديثة من ايطاليا في العصور الوسطى فيما سمي لاحقا بالنهضة. فلماذا بدأت النهضة في ايطاليا؟ تميزت ايطاليا بقربها من البحر الابيض المتوسط، وهو ما مكنها من التجارة مع الشرق والاستفادة من الحضارة الاسلامية. ساعد في ذلك كون ايطاليا مكونة من مدن «جمهوريات» تجارية قوية مستقلة ومتنافسة، كذلك اكسبها الصراع بين سلطة البابا والامبراطورية الرومانية حرية واستقلالا مكنها من تطوير نظام سياسي مختلف.
خلق هذا الواقع السياسي والاقتصادي والفكري نخبا تجارية ونبلاء في شمال ايطاليا جعلت من المدن سكنا ومركزا لها. كونت هذه المدن حكما ذاتيا، ومجالس منتخبة على المستوى المحلي (the commune) فكانت منبرا للحوار وتبادل الآراء ونشر مفاهيم المشاركة السياسية والنظام الجمهوري والحرية، فشكلت بذلك نواة للنظام الديمقراطي الذي تطور لاحقا في أوروبا.
بدأت النهضة في ايطاليا كحركة ثقافية ركزت في اهمية التعلُم من الإرث الكلاسيكي وتكريس مفهوم «الانسنة». هناك عدة عوامل أسهمت في بدء النهضة وانتشارها، أولها الحاجة الى اعادة اكتشاف النصوص اليونانية والرومانية (اللاتينية) بحثا عن اجابات للازمات التي واجهتها وما أصابها من مرض الطاعون، وصراعات بين الكنيسة والسلطة المدنية وحروب كونها بين حضارتين البيزنطية والعثمانية، وتولدت الحاجة الى احياء الحضارة الكلاسيكية والاستفادة منها في مواجهة الازمات. وفرت هذه النصوص مصدر إلهام جديد للفنانين والكتاب والمفكرين. فيسرت العودة الى الماضي للاستفادة من افضل ما عندهم. ثانيا تطور مفهوم الانسنة (humanism) الذي كان حركة فكرية تُعظم اهمية العقل البشري والتجربة الانسانية والفردانية. هذا التوجه، الذي يعظم من الطاقات والقدرات الانسانية، قاد «الانسانيين» (humanists) الى التشكيك في سلطة الكنيسة الكاثوليكية التي بدت لهم آنذاك فاسدة وعفا عليها الزمن، وهو دفع «الانسانيين» نحو الرجوع الى الاناجيل الاساسية ورفض تفسيرات الكنيسة.
ثالثا كون إيطاليا مكونة من جمهوريات (مدينة/دولة) مستقلة متنافسة تحكمها مجالس منتخبة، استفادت هذه الجمهوريات من موقعها المهم القريب من البحر الابيض المتوسط ومن تجارتها مع الشرق الاوسط فتكونت طبقة تجارية ثرية. زيادة الثراء والارتقاء الاجتماعي وسع الطبقة الوسطى في المدن وزاد من التنافس على السلطة السياسية والمناصب، كما مكنها من تقديم الدعم المادي للشخصيات السياسية والفكرية، وهو ما حرك الحياة السياسية والمشاركة الفعالة في إدارة الجمهوريات. اصبحت فلورنسا (إحدى اهم هذه المدن) اكثر المدن ديمقراطية. أدت هذه البيئة الى جذب المتعلمين والعلماء والتوجه نحو الارث القديم لوضع نظام تعليم يسعى الى استكشاف حالة الانسان. استخدم البعض الدروس من الماضي في الدفاع عن النظام الجمهوري (التشاركي) وخصوصا في نهضة فلورنسا. استخدم آخرون الدروس من الماضي في فهم المقدس والاحتفاء بالإنسان وتكريمه على انه اعلى مخلوقات الله. وجد جميع الدارسين لإرث الماضي خارطة طريق تعينهم على ادارة حياتهم سواء كانت تتعلق بالقصر، او السوق، او الجامعة او ساحة المعركة.
رابعا، في مرحلة لاحقة تمت اعادة «اختراع» المطبعة (اختراع صيني) في منتصف القرن الخامس عشر وهو ما مكن من طباعة الكتب والمنشورات التي أسهمت بشكل كبير في نشر الافكار والمعلومات التي كانت بمثابة الوقود لانتشار فكر ومبادئ النهضة على نطاق واسع. خامسا، انتشار الفكر العلماني الذي يرى عدم فرض السلطة الدينية على الدولة او على الافراد. اكتسب هذا الاعتقاد انتشارا وبدأ الناس يشككون في سلطة الكنيسة وحقها في احتكار التفسير ومنح الخلاص بعد ان اتضح فساد كثير من رجالها وبروز عقائد منافسة.
سادسا، تأثرت الحركة الفكرية بتداعيات مرض الطاعون (1347-1351) الذي هز الوجدان الغربي، واصبحت حياة القرون الوسطى ضحية لها. وأدت الوفيات الى تناقص العمالة في الزراعة، ما رفع اجور العمال واضعف الاقطاع وطبقة النبلاء. شكل التحول في النظام الطبقي الاجتماعي الاقتصادي ضربة قاصمة للنظام السياسي والعسكري القائم وأسهم في انهاء الاقطاع في اوروبا. كذلك أثر الطاعون في سلطة المؤسسة الدينية، بسبب كثرت الوفيات من رجال الدين، سُمح للعامة القيام بواجبات رجال الدين مما قلل ادعاء التخصص واحتكار الخلاص. مع تزايد الوفيات جراء مرض الطاعون أصبح النبلاء والتجار أكثر ثراء (نتيجة نصيبهم من الميراث)، ما مكنهم من الاستثمار وتقديم الدعم للسياسيين والمفكرين والكتاب والفنانين فانتعش الفن والفكر والكتابة وتم خلق اقتصاد استهلاكي. من جهة اخرى ادت زيادة الوفيات الى اليأس من الحياة والشعور بتفاهة الانسان. ادى ذلك الى طرح السؤال: ماذا تعني الحياة الطيبة والكريمة في الحاضر، وليس بعد الممات؟ هذا كان السؤال المحوري الذي سيطر على اهتمام الأدباء والمفكرين بالبحث في الموروث عن إجابات، بحثا عن إجابات في الموروث أعاد احياء الحضارة الاغريقية والرومانية في عصر النهضة.
خلال هذه الفترة زاد طرح الاسئلة مثل ما قيمة التعليم وكيف يكون، وما تعريف الحكومة الرشيدة له، وما مبررات الحروب والعنف؟ وما محددات قيمة الفرد وفرصه، وما الذي يشكل هوية الفرد والجماعة، وماذا يعني ان تكون مؤمنا جيدا؟ شكلت هذه الاسئلة ميادين الحوار والتداول ومواضيع الادب والفن والدبلوماسية والسياسة وفنون الحرب، وانتهت بمرحلة «الإصلاح الديني» وظهور البروتستانتية اللوثرية كمنافس للكاثوليكية. نتيجة هذا الحوار اختطت اوروبا رؤية وقيما للتجربة الانسانية وماذا يعني ان تكون إنسانا، ووضعت بذلك قاعدة لعالم جديد. أدت النهضة الى فكرة أن «الانسان قادر ان يحيا حياة كريمة، وان السعي وراء هذه الحياة الطيبة مسعى نبيل». رفض الخوف والجرأة على طرح الاسئلة كان بداية النهضة والتقدم والازدهار، استفادت اوروبا من هذه الحركة في تطورها اللاحق؟ وظهور الثورة العلمية وعصر الانوار والثورة الصناعية وهذا موضوع لنقاش آخر؟
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك