أعلنت سلطات الاحتلال الصهيوني وقف الحرب التي شنتها على مخيّم جنين، لان المستويَين الأمني والسياسي في إسرائيل كانا يرغبان في إنهائها بأسرع وقت، ولكن لم تحقق ما أعلنه الإسرائيليون كهدف لها وهو استعادة الردع الأمني المفقود. رغم مظاهر احتفال حكومة نتنياهو على وجه التحديد بنتيجة العملية العسكرية التي سمّوها «بيت وحديقة»، وبالذات بعدد الشهداء والجرحى والمعتقلين الفلسطينيين، وعدد العبوات التي تم العثور عليها ومعامل إنتاجها وإنتاج الصواريخ التي هي في مراحل التطوير الأولى.
لكن بحسب المصادر الإسرائيلية، تقرر القيام بهذه العملية قبل أكثر من عام خلال عهد حكومة يائير لابيد السابقة، ولكنها لم تنفذ إلا مؤخرا، والسبب الرئيسي للدفع بها في هذا التوقيت هو العملية السابقة في جنين، التي تم فيها تفجير مركبة «النمر» العسكرية الإسرائيلية المدرعة على مدخل مخيم جنين. وأيضاً العملية التي نفذها مقاومون فلسطينيون في مستوطنة «عيلي» التي قتل فيها أربعة مستوطنين، والتي ضغطت كثيراً على وزراء «الصهيونية الدينية»، ودفعتهم إلى المطالبة بعملية عسكرية سريعة انتقاماً للمستوطنين القتلى ولاستعادة الردع المتآكل في الضفة الغربية.
ولو دققنا في التفاصيل المتعلقة بدوافع الحرب، فسنجد أن عمليات الاجتياح الإسرائيلية المتكررة لجنين ونابلس هي الدافع وراء ازدياد حدة ووتيرة العمليات الفلسطينية المتكررة. فعملية «عيلي» كانت رداً على اجتياح جنين وقتل مواطنين فلسطينيين فيها. أي أن الاجتياح في حد ذاته يؤدي إلى نتائج عكسية تماماً لما ترغب السلطات الإسرائيلية بتحقيقه.
ويبدو أن القيادات الإسرائيلية لا تستوعب دروس التاريخ، أو أن عنصريتها وتطرفها يعمي بصيرتها فلا ترى أبعد من أنفها، وتقع في فخ غبائها. فكل المتطرفين سقطوا بسبب عماهم حين ظنوا أن القوة تدوم وتسمح لهم بالسيطرة إلى ما لا نهاية.
وإسرائيل اليوم تغرق في غيّها وشعورها بعظمة القوة، وأنها تستطيع أن تفعل ما يحلو لها ضد الشعب الفلسطيني مسلحة بحصانة وحماية دولية تمنحها لها الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية التي لم تتخلّص بعد من عقليتها الاستعمارية.
فما يحصل في جنين مؤخرا هو تكرار لما حصل العام 2002 وإن كان بوتيرة أصغر أو أقل حدة. ولكن مجرد الرجوع إلى جنين بعد هذا الوقت، يجب أن يدفع الإسرائيليين للتفكير بما يفعلون ضد الفلسطينيين، وهل ينجحون بقمع إرادة هذا الشعب في المقاومة والإصرار على انتزاع حقوقه الوطنية المشروعة المقرة دولياً كأيّ شعب على الكرة الأرضية.
تتعاقب الأجيال الفلسطينية، وكل جيل يأتي يكون أكثر جرأة وأشد صلابة في مواجهة الاحتلال، فمن جيل الثورة في سنوات الستينيات والسبعينيات إلى جيل الانتفاضة الأولى، ثم جيل الانتفاضة الثانية، والآن جيل العرين والكتائب وما شئنا من الأسماء والألقاب.
ولكن الشيء الوحيد المستمر مع تغيّر الأجيال أن الفلسطينيين لا ينسون كما كانت تعتقد جولدا مئير وغيرها من قادة إسرائيل، بل إن كل جيل يولد بجينات مجبولة بحبّ فلسطين وتصميم على تحرير الوطن والتخلّص من الاحتلال. ولا يمكن للسنين أن تمحو الذاكرة الفلسطينية أو الشعور الوطني لدى هذا الشعب الذي قدم أنموذجاً في النضال والكفاح الوطني في مختلف المراحل.
الحرب التي تشنّها إسرائيل على جنين تعبير عن الفشل، ليس فقط في استعادة الردع الذي لن يعود ولم يكن موجوداً أصلاً حتى لو نعمت إسرائيل ببعض الهدوء ربما بسبب الاعتقاد بأننا سنصل إلى السلام عبر عملية سياسية ومفاوضات وتدخل دولي، وإنما في فهم عقلية الشعب الفلسطيني ومدى تصميمه وإرادته على المضي قدماً في الكفاح من أجل حريته واستقلاله.
وهو فشل أكبر في عدم استغلال إسرائيل للظروف التي تمنحها الفرصة لتحقيق سلام في ظل تفوّقها القائم الآن والذي يعطيها أفضلية في أي اتفاق. فالذهاب إلى ضمّ المناطق الفلسطينية، والدفع باتجاه دولة أبارتهايد، سيقودان في النهاية إلى أن تفقد إسرائيل أفضلية التفوّق العسكري والاقتصادي، وتفقد معها هدف الصهيونية الأهم وهو الدولة اليهودية، أي ذات الأغلبية والصبغة اليهودية.
يستطيع رئيس الحكومة الإسرائيلية أن يسجل لنفسه إنجازاً آنياً بأنه شنّ حرباً على جنين، وقتل عدداً من الفلسطينيين، واستولى على سلاح ومعدات قتالية، ويستطيع أن يُسكت اليمين المتطرف الذي كان طوال الوقت يدعو إلى الحرب، حتى أنه قد يزايد على المعارضة بأنه نفذ ما لم يفعلوا على الرغم من أن الحكومة السابقة لم «تقصر» أبداً في العدوان ضد الشعب الفلسطيني.
ولكن سرعان ما انفجرت الحقيقة في وجهه ووجه عتاة التطرف في إسرائيل في أول عملية حصلت في تل أبيب، كرد فعل على ما جرى في جنين، وستنفجر أكثر في ردود الفعل المتوقعة. وسيكتشفون أنهم لم يغادروا مربّع الصفر.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك