في ظل التحولات التي تشهدها منظومة العلاقات الدولية حالياً، فقد لوحظ وجود توجهات لدى العديد من مناطق العالم وبدء حوارات لإمكانية تأسيس شراكات متعددة الجوانب انطلاقاً من قناعة دول العالم كافة أنه لا بديل عن التعاون، إذ لا توجد دولة أو منطقة في العالم بإمكانها مواجهة التحديات الراهنة كافة سوى بالتكامل والشراكة مع مناطق أخرى، وانطلاقاً من ذلك وبدعوة كريمة من مركز دراسات تحليل العلاقات الدولية بأذربيجان شاركت في مؤتمر نظمه المركز في الخامس من يوليو 2023 بعنوان: «الارتباط بين الشرق الأوسط والقوقاز: الأمن والتعاون»، وقد تضمن المؤتمر ثلاث جلسات تضمنت الأولى توصيفاً للتهديدات الأمنية سواء التي تواجه المنطقتين أو تلك المشتركة، بينما دارت الثانية حول تحولات القوى العالمية وتأثيرها على المنطقتين، أما الجلسة الثالثة فكانت حول فرص التعاون المستقبلي بين منطقتي القوقاز والشرق الأوسط. المؤتمر شارك به نخبة من الباحثين والأكاديميين من ثلاث عشرة دولة من منطقة القوقاز والخليج العربي والشرق الأوسط.
وقد دارت النقاشات بشكل أساسي حول دول جنوب القوقاز التي تضم كلا من أذربيجان وأرمينيا وجورجيا أوسيتيا الجنوبية وتركيا وإيران وعلاقاتها بمنطقة الشرق الأوسط عموماً والخليج العربي على نحو خاص، ومن خلال تحليل آراء المشاركين فقد كانت توافقات على عدد من التحديات من بينها أولاً: إجماع المشاركين على أنه من أبرز النتائج التي أوجدتها الحرب في أوكرانيا احتدام التنافس الأمريكي الصيني ليس فقط في منطقة الباسيفكي ولكن في منطقة الشرق الأوسط أيضا، بالإضافة إلى الانعكاسات الاقتصادية والأمنية المختلفة لتلك الحرب، ثانياً: أنه من أجل تحديد التحديات الأمنية التي تواجه المنطقتين وتحديد سبل مواجهتها لا بد من تحديد اللاعبين الرئيسيين في كلا المنطقتين سواء من دولهما أو القوى الخارجية التي لها مصالح جوهرية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا وغيرها من القوى الأخرى، بالإضافة إلى تحديد الأولويات الأمنية للجانبين في الوقت الراهن، ثالثاً: في الوقت الذي تشهد فيه منطقة القوقاز تحولات إيجابية منها جهود أذربيجان لتوقيع معاهدة سلام شاملة مع أرمينيا، وكذلك السعي لتوقيع اتفاقية شاملة مع الاتحاد الأوروبي، فإنه توجد تحديات في منطقة القوقاز عموماً سواء فيما يتعلق ببعض التحالفات الثنائية أو تأثير تحولات النظام العالمي على تلك المنطقة، رابعاً: على الرغم من وجود مؤشرات تحول إيجابية في منطقة الخليج العربي وخاصة الاتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران وكذلك عودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية، فإن تأثير التدخلات الخارجية في سوريا بالإضافة إلى استمرار عمل الجماعات دون الدول سواء في سوريا أو دول الجوار الإقليمي لا يزالان يمثلان تحديين هائلين في تلك المنطقة، فضلاً عن ضرورة إيجاد حل للقضية الفلسطينية ضمن حل الدولتين، وحل الصراعات الإقليمية من بينها اليمن والسودان. خامساً: من بين التحديات الأمنية التي تواجه منطقة الخليج العربي تهديدات الأمن البحري وخاصة الاعتداء على ناقلات النفط التي تمثل ليس فقط تهديداً لأمن الملاحة البحرية والأمن الإقليمي بل أيضاً تعد انتهاكاً لقواعد القانون الدولي.
وعلى صعيد تحولات النظام الدولي الراهن، فقد كان هناك إجماع على عدة نقاط أولها: سمة التعقيد التي تميز النظام العالمي الراهن، من خلال سعي الناتو للتوسع وتأثير ذلك على مستقبل منظومة الأمن في أوروبا، وظهور مؤشرات استقلالية نسبية للاتحاد الأوروبي عن الولايات المتحدة على خلفية الأزمة الأوكرانية سواء فيما يتعلق بمحاولات تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة، أو إصدار استراتيجيات للأمن القومي ومن ذلك الاستراتيجية الأولى لألمانيا للأمن القومي، وسعي الصين لملء الفراغ الذي قد تتركه الولايات المتحدة في بعض المناطق، بمعنى آخر فإن النظام العالمي الراهن يمر بتحولات مهمة، صحيح أنها لن تصل إلى حد الحرب الباردة مجدداً، ولكن هناك احتدام للتنافس الدولي بشكل غير مسبوق وسوف تكون له انعكاسات إقليمية سواء على الشرق الأوسط أو منطقة القوقاز وثانيها: أنه يجب النظر إلى التحولات من وجهي العملة، فالعلاقات الثنائية بين دول المنطقتين أيضاً لها انعكاسات إقليمية وعالمية سواء التطور الإيجابي في العلاقات السعودية الإيرانية أو علاقات أذربيجان الإقليمية، وكذلك العلاقات بين أرمينيا وإيران، ولكن لابد في الوقت ذات من تحليل مفهوم المصلحة الوطنية وتأثيره في المنظومة الإقليمية أو العالمية ومن ذلك قرار دول الخليج العربي بشأن أوبك بلس، وثالثها: دور العوامل الاقتصادية في تحولات النظام العالمي ومنها مشروعات خطوط الغاز من بحر قزوين والشرق الأوسط لأوروبا وتأثير حالة عدم الاستقرار والتنافس الإقليمي والعالمي على تلك المشروعات، ورابعها: حالة عدم اليقين بشأن الحرب الأوكرانية ذاتها وتأثيرها على تحولات النظام العالمي، فبعض الدول رأت في تلك الحرب تحدياً، ولكنها لاتزال لديها علاقات عديدة مع روسيا تأسيساً على مصالح متنوعة، وخامسها: أن الولايات المتحدة الأمريكية تواجه الآن تحديين الأول في أوروبا بسبب الحرب الأوكرانية التي تطلبت انخراطاً أمريكياً لدعمها سواء على الصعيد الاقتصادي أو التسلح، بينما يتمثل التحدي الثاني في المنافسة مع الصين في بحر الصين الجنوبي الأمر الذي حدا بالولايات المتحدة إلى بناء تحالفات مع دول في تلك المنطقة.
وبوجه عام وبغض النظر عن وجود اختلافات في وجهات النظر حول بعض القضايا وهذا أمر طبيعي ربما لاختلاف أولويات دول المنطقتين أو لأنها المرة الأولى التي تتم فيها تلك المناقشات بين أكاديميين من المنطقتين ولكن لوحظ وجود توافقات حول عدة قضايا الأولى: التأكيد على حتمية مواجهة الإرهاب بكافة صوره، الثانية: أن ذلك التعاون يمكن أن يكون ثنائياً أو متعدد الأطراف بشكل وظيفي ودائم، وهو ما سوف يسهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي في المنطقتين، والثالثة: أن الشراكات والتحالفات لا تستهدف سوى تحقيق توازن القوى الإقليمي وهو متطلب مهم لتحقيق الأمن الإقليمي ويلاحظ أن هناك توجها في المنطقتين للحد من الصراعات بدلاً من توسيعها.
ومع أهمية ما سبق، فلم يكن هناك اتفاق حول أي من التحديات أكثر خطورة هل تلك التي تنبع من الصراعات الداخلية في بعض الدول ومن ثم تأثيرها على دورها الإقليمي، أم من سعي بعض القوى الإقليمية للهيمنة ومن ثم تأسيس تحالفات وشراكات تمثل خللاً في توازن القوى، أم من تنافس القوى الدولية وخاصة في بعض مناطق الصراعات وتأثير ذلك على الأمن الإقليمي في تلك المناطق؟، وقد تكون الإجابة هي تلك العوامل الثلاثة مجتمعة، لكنها تختلف بشكل نسبي سواء بالنسبة للدول أو الأقاليم.
ومع أهمية ما سبق فقد كانت النتيجة الاستراتيجية لتلك المناقشات هي حتمية التواصل بين منطقة القوقاز والشرق الأوسط ضمن أطر تعاون مستدامة.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك