لطالما كان تطوير السياسة العامة عملية معقدة، كما أنه يتطلب فهماً شاملاً لاحتياجات وتحديات المتأثرين من السياسات، ولا سيما في القطاع الخاص. وتتمثل إحدى الطرق المثبتة في تحقيق هذا الفهم هو المشاركة الفعالة لأصحاب المصلحة من ممثلي القطاعات الاقتصادية المختلفة. وقد حققت هذه العملية نجاحاً ملحوظاً في آسيا، كما سوف أبين ذلك في دراسة لحالة اليابان وسنغافورة.
كان القطاع الخاص في اليابان في طليعة النمو الاقتصادي، فهناك العديد من النهج الفريدة التي أدت إلى تطور الاقتصاد بشكل ملحوظ منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فكان يجب على صناع القرار أخذ قرارات حاسمة فيما يتعلق بالقوانين والاستراتيجيات والسياسات لدفع شركات ومؤسسات القطاع الخاص بالنهضة بالاقتصاد الياباني، وكان إشراك أصحاب المصلحة في صنع السياسات الاقتصادية من أهم قيم الحوكمة الإدارية التي تم العمل عليها، حتى أنها أصبحت جزءا لا يتجزأ من الثقافة اليابانية التي تسمى ببناء الإجماع، المعروفة باسم «نيماواشي»، وهو جزء لا يتجزأ من الثقافة اليابانية وتشمل صنع السياسات، وتعني الامتناع عن اتخاذ أي قرار نهائي حتى تتم عملية الإجماع والموافقة على سياسة ما. حيث إنه قبيل اتخاذ أي قرار يتعلق بإطلاق استراتيجية أو سياسة ما يمكن أن تؤثر على أصحاب المصلحة، يقوم صناع القرار في الهيئة الحكومية بالاجتماع والاتفاق مع ممثلي القطاع الخاص في أحد القطاعات المرتبطة بهذه السياسة، ويتم أخذ القرار النهائي بعد التأكد من أنه تم الاستماع إلى آرائهم حول مختلف القضايا المهمة. ويسري مبدأ الحوكمة في العديد من الشركات اليابانية إلى اليوم. وهناك العديد من الأمثلة البارزة على إشراك أصحاب المصلحة في القطاع الخاص، وأحدها هو تنفيذ قانون تنشيط الصناعة لعام 2013 واستراتيجية النمو 2030 وغيرها من الاستراتيجيات الصناعية، حيث تعاونت الحكومة مع أصحاب المصلحة من مختلف الصناعات لفهم تحدياتهم واقتراح الحلول التي من شأنها تجديد وتطوير القطاع الصناعي. وكانت النتيجة سلسلة من الإصلاحات التي عززت القدرة التنافسية، وعززت الابتكار، وأدت إلى عودة قطاع التصنيع في اليابان في مجالات متقدمة وجديدة.
قصة نجاح سنغافورة هي شهادة أخرى على قوة المشاركة الفعالة لأصحاب المصلحة. لطالما أعطت حكومة الدولة الأولوية للتشاور مع القطاع الخاص لفهم احتياجاته وتحدياته. كان لمشاركة أصحاب المصلحة هذه دور فعال في تشكيل السياسات التي جعلت سنغافورة واحدة من مراكز الأعمال الرائدة في العالم. ومثالاً على ذلك هو نهج سنغافورة للتحول الرقمي الذي يعتبر مثالا ناجحا آخر لمشاركة أصحاب المصلحة.
تهدف مبادرة الأمة الذكية أو مبادرة سمارت نيشن، التي أطلقتها الحكومة إلى الاستفادة من التكنولوجيا الرقمية لحل تحديات العالم الحقيقي بيد أن تنفيذ هذه السياسة التحولية يتطلب تفهما وتعاونا من جانب شركات القطاع الخاص. ومن هنا، شاركت الحكومة مع العديد من ممثلي شركات القطاع الخاص بما في ذلك شركات التكنولوجيا والشركات الرقمية الناشئة والشركات التقليدية في عملية صنع القرار من خلال تنظيم العديد من المنتديات والمناقشات ومن خلال المنصات الحكومية والمشاركة عبر إبداء الرأي والاستطلاعات العامة، فسمحت هذه المشاركة الاستباقية للحكومة بوضع سياسة شاملة، ما سهل التحول الرقمي بشكل ناجح على مستوى دول رابطة جنوب شرق آسيا المعروف برابطة آسيان.
وتبين الحالات الخاصة لليابان وسنغافورة أن مشاركة أصحاب المصلحة ليست مجرد مفهوم نظري بل هي أداة عملية لصياغة السياسات وتنفيذها.
فمن خلال إشراك ممثلي القطاع الخاص، يمكن للحكومات الحصول على نظرة ثاقبة للتحديات العملية التي تواجهها الشركات، وتصميم السياسات التي تعالج هذه التحديات، وتعزيز بيئة إيجابية لنمو القطاع الخاص.
ومن هنا، يمكن طرح السؤال الآتي، ما الذي يجب مراعاته عند إشراك أصحاب المصلحة من القطاع الخاص؟ هناك أربع نقاط مهمة يمكن اتباعها:
أولاً: إنشاء منصة منظمة لمشاركة أصحاب المصلحة. يجب أن توفر هذه المنصة مساحة لأصحاب المصلحة من القطاع الخاص لمشاركة آرائهم وتحدياتهم ومدخلاتهم من السياسات المقترحة.
ثانياً، تشجيع المشاركة الاستباقية: ينبغي للحكومات أن تحفز أصحاب المصلحة في القطاع الخاص على المشاركة بنشاط في عملية صنع السياسات. يمكن أن يكون ذلك من خلال الاجتماعات المنتظمة أو المشاورات عبر الإنترنت أو دراسات استطلاعات الرأي أو غيرها من أشكال التفاعل، بحيث تكون عملية إشراك أصحاب المصلحة «ثقافة» بدلاً من «سياسة معقدة».
ثالثاً، النظر في تنوع القطاعات الاقتصادية: وينبغي مراعاة تنوعها من حيث الحجم والقطاع والموقع الجغرافي. هناك العديد من القطاعات الاقتصادية كالقطاع الصناعي، قطاع العقارات، قطاع السياحة.. إلخ، فلكل قطاع تحدياته الخاصة، وسماع آراء ممثليهم يضمن استدامة القطاع ونموه وتنافسيته.
رابعاً: ضمان الشفافية والمساءلة: يجب أن تكون مشاركة أصحاب المصلحة شفافة، ويجب أن تكون الحكومات مسؤولة عن النظر في مدخلات أصحاب المصلحة عند صياغة السياسات.
وفي الختام، فإن المشاركة الفعالة لأصحاب المصلحة يعد جانباً حاسماً من جوانب التنفيذ الناجح للسياسات. وتجارب اليابان وسنغافورة وغيرها من بلدان العالم تعد من الدروس القيمة للبلدان التي تسعى إلى تحسين عمليات صنع سياساتها. فمن خلال إشراك أصحاب المصلحة، يمكن للحكومات فهم تحديات القطاع الخاص بشكل أفضل وتصميم سياسات تعزز النمو والابتكار والبيئة التنافسية والاستدامة على المدى البعيد.
{ مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك